تبكى.. قال ذو النون: فدلّونى عليها.. فذهبت، فلما أشرفت على الوادى التى هى به، سمعت لها صوتا ضعيفا حزينا.. قال: فتتبّعته، فإذا أنا بجارية ما تكاد تبين من الجوع والنّحول، وهى جالسة على صخرة عظيمة، فسلمت عليها، فقالت: يا ذا النون، مالك وللمجانين؟! فقلت لها: أنت مجنونة؟! قالت: لم أكن كذلك، إنما نودى علّى بالجنون. فقال ذو النون: وما الذي جنّنك؟ قالت: يا ذا النون، حبّه «١» جنّنى، حبّه هيّمنى، ووجده أقلقنى.
قال ذو النون: فقلت لها: يا جارية، وأين محلّ الشوق منك؟ قالت:
يا ذا النون، الحب فى الحشا، والشوق فى الفؤاد، والوجد فى السر.. قال ذو النون: فقلت لها: يا جارية، قالت: لبيك.. قلت: الفؤاد فى القلب؟
قالت: نعم، الفؤاد نوره القلب، والسر نوره الفؤاد، فالقلب يحب، والفؤاد يشتاق، والسر يجد الحق.. قال ذو النون: فقلت لها: وكيف يجد الحق؟
قالت: يا ذا النون، وجدان الحق بلا كيف.. قال ذو النون: فقلت لها: أوصينى يا أمة الله بشىء أنتفع به.. فقالت: يا ذا النون، حبّ مولاك ولا تبتغ به بدلا.. قلت: زيدينى يرحمك الله.. قالت: يا ذا النون، إن قدرت أن تخطو إلى الآخرة خطوة فافعل ولو أدركك فى ذلك مشقة، فإن المنازل والدرجات لا يوصل إليها إلا بالمشقّات.. ثم قالت: يا ذا النون، إن كنت رجلا فى محبتك صادقا «٢» ، وفى عشقك لسيدك واثقا «٣» فمت كما أموت.. ثم صرخت صرخة عظيمة وقالت: هذا موت الأخيار من المحبين الصادقين. فغشى عليها، ووقعت على وجهها، فتقدمت إليها، وحرّكتها، فإذا هى ميتة، فطلبت شيئا أحفر به «٤» قبرا، فلم أجد شيئا..