للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وعبروا: فمنهم من يدعي المحبة والشوق، ولا يعرف المحبوب، فتراه يصيح، ويستغيث، ويمزق ثيابه، ويخرج عن حد الشرع بدعواه ومضمونها!! ومنهم من حمل على نفسه بالجوع والصوم الدائم، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال لعبد الله بن عمرو: "صم يومًا وأفطر يومًا" فقال: أريد أفضل من ذلك. فقال: "لا أفضل".

وفيهم من خرج إلى السياحة، فأفات نفسه الجماعة١. وفيهم من دفن كتب العلم، وقعد يصلي ويصوم، ولم يعلم أن دفنها خطأ قبيح؛ لأن النفس تغفل، وتحتاج إلى التذكير في كل وقت، ونعم المذكر كتب العلم.

وإنما دخل إبليس على كل قوم منهم من حيث قدر، وكان مقصوده بدفن الكتب إطفاء المصباح، ليسير العابد في الظلمه.

٧٢٨- وما أحسن ما قال بعض العلماء لرجل سأله فقال: أريد أن أمضي إلى حبل اللُّكَّامِ٢؟ فقال: هذه "هوكلة" وهي كلمة عامية معناها: حب البطالة.

٧٢٩- وعلى الحقيقة: الزهاد في مقام الخفافيش، قد دفنوا أنفسهم بالعزلة عن نفع الناس، وهي حالة حسنة إذا لم تمنع من خير؛ من جماعة، واتباع جنازة، وعيادة مريض. إلا أنها حالة الجبناء، فأما الشجعان؛ فهم يتعلمون ويعلمون، وهذه مقامات الأنبياء عليهم السلام.

٧٣٠- أترى كم بين العابد إذا نزلت به حادثة وبين الفقيه؟ بالله، لو مال الخلق إلى التعبد، لضاعت الشريعة، على أنه لو فهم معنى التعبد؛ لم يقتصر به على الصلاة والصوم! فرب ماش في حاجة مسلم فضل تعبده ذلك على صوم سنة. والعمل بالبدن سعي الآلات الظاهرة، والعلم سعي الآلات الباطنة من العقل والفكر والفهم، فلذلك كان أشرف.

٧٣١- فإن قلت: كيف تذم المعتزلين للشر، [وتنفي عنهم] التعبد؟! قلت: ما أذمهم، بل حدثت منهم حوادث اقتضاها الجهل، من الدعاوى والآفات التي سبها


١ صلاة الجماعة.
٢ جبل اللكام: الجبل المشرف على أنطاكيه، وقد وقع في الأصل: الآكام، وهو تصحيف.

<<  <   >  >>