وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث السابق:«ألا لا يمنعن رجلًا هيبةُ الناس أن يقول بحق إذا علمه»، وقول جرير:
جاء الخلافة أو كانت له قدراً ... كما أتى ربَّه موسى على قدر
فأنت مع المثال الأول أمام تركيب تمثلت فيه القاعدة النحوية، لكنه كالتمثال الأصم، فاز من الوسامة والقسامة بأوفر الحظ والنصيب، ولكنه تمثال جامد فاقد الحركة والنطق. أما مع الأمثلة القرآنية والحديثية والشعرية فأنت أمام نماذج تتنعَّش بالحياة وتمور بالحركة، مع ما تعطيه من أنس خبرة بالأبنية والتراكيب العربية. ومن هنا احتلت الشواهد التراثية في تقعيد النحو مكانة عالية.
على أنه ينبغي أن يكون واضحاً أن فكرة التيسير على الناشئة كانت ظاهرة بينة في فكر النحاة الأوائل رضوان الله عليهم: فابن السراج المتوفى ٣١٦ هـ يؤلف كتاباً كبيراً في النحو هو «الأصول» ثم يضع إلى جانبه مؤلفاً صغيراً جداً هو «الموجز»، وأبو علي الفارسي ٣٧٧ هـ يؤلف «الإيضاح» وهو متن صغير سهل العبارة إلى جانب كتبه الكبار: التذكرة والشعر والحجة والشيرازيات ... وغلامه ابن جني العظيم - كما كان يصفه أستاذنا الطيب الدكتور كمال بشر أطال الله في النعمة بقاءه - يؤلف بجانب الخصائص والمنصف وسر صناعة الإعراب والمحتسب رسائل موجزة في النحو والصرف، مثل اللمع والملوكي في التصريف.
وأبو القاسم الزجاجي ٣٤٠ هـ يصنف كتاباً في الفكر النحوي هو «الإيضاح في علل النحو» ثم يؤلفه للناشئة كتابه الشهير «الجمل»، وهو كتاب سهل رهو، وقد جاء عنوانه في الأصل المخطوط هكذا:«كتاب الجمل في النحو ... اختصار أبي القاسم عبد الرحمن بن إسحاق الزجاجي» أرأيت إلى كلمة «اختصار»؟
وقد وقفت عند كتاب غريب أراه صورة واضحة الدلالة على أن علماءنا الأوائل كانوا مشغولين حقاً بتربية الناشئة والتيسير عليهم والتدرج معهم في تعليم النحو. وذلك هو كتاب «إعراب ثلاثين سورة من القرآن الكريم» لأبي عبد الله الحسين بن أحمد المعروف بابن خالويه المتوفى سنة ٣٧٠ هـ. لقد كان المألوف في