وقف أيها القارئ الكريم عند اسم «مصطفى أفندي المكاوي المحامي»، وانظر إلى همم الرجال واهتماماتهم في تلك الأيام! رجل من رجال القانون ينهض للمشاركة في نشر أصول من كتب البلاغة! وأدعُ لك أيها القارئ العزيز التدبر في هذا الذي كان، وما نحن عليه الآن!
وظاهرة طبع الكتب بهامش كتب أخرى، ظاهرة عجيبة فريدة، وهي دالة بوضوح على أن القوم كانوا في سباق لنشر العلم وإذاعته. وما أعلم أن هذه الظاهرة عرفت في غير مطابع مصر واستانبول، في بداية الطباعة العربية على الأقل.
هذا وقد ارتبط الورق الأصفر عند عارفي الكتب وجامعيها، بجودة التصحيح وكمال الإخراج - وتلك حقبة غالية من تاريخ الطباعة في مصر - فقلَّ أن تجد تصحيفاً أو تحريفاً، وجاءت النصوص كاملة موفورة، لا سقط فيها ولا خلل، وذلك لأن القائمين على تصحيح الكتب الصفراء في ذلك الزمان كانوا طبقة من فضلاء العلماء، وكانوا يقومون بعملهم هذا في أمانة تامة وحرصٍ شديد. ويذكر التاريخ من أسماء هؤلاء المصححين العلماء: نصر الهوريني، ومحمد بن عبد الرحمن، المعروف بقُطة العدوي، ومحمد الحسيني، وطه محمود، ومحمد عبد الرسول، ومحمد قاسم، ومحمد الزهري الغمراوي، وعبد الغني محمود.
وكان كثير من أساتذتنا الذين يجمعون الكتب يركضون خلف الطبعة الصفراء، ويسمحون فيها بأغلى الثمن، فإذا جئت أحدهم بطبعة من الكتاب القديم على ورق أبيض، نفر منها نفوراً شديداً، فإذا زيَّنتها له بأن فيها أوائل فقرات، وعلامات ترقيم، لجَّ في إعراضه، وقال:«بِطِينُه ولا غسيل البرك».
وإن تعجب فعجب: أن الورق الأصفر قد عاد إلى الطباعة مرة أخرى، وأمامي الآن طبعة جيدة جداً من «القاموس المحيط» للفيروزآبادي، على ورق أصفر. وتقع هذه الطبعة في (١٧٥٠) صفحة، وقد أصدرتها مؤسسة الرسالة ببيروت - الطبعة الثانية ١٤٠٧ هـ = ١٩٨٧ م. ثم طبعة محققة من كتاب «مفردات ألفاظ القرآن» للراغب الأصبهاني على ورق أبيض، ولكنه بياض خفيف يميل كل الميل إلى