ومع غزارة هذه المعارف التي يقدمها لنا الكاتب، ونفاستها، فهو لا يدل بها على قارئه، ولا يسوقها في موكب تتقدمه الخيالة، ويحف به راكبو الدراجات، وتكتنفه دقات الطبول، كما يفعل كثير من الكتاب الآن، وإنما يأتيك كلامه سهلاً رهواً، يتهادى في إهاب الكرامة والتواضع والإسماح، وعليه من العلم بهاؤه، ومن الجد أماراته، بأسلوب عذب مصفى، أسلوب كاتب يحترم عقل قارئه، ويريد إمتاعه لا التعالي عليه.
يقول في الفصل الثاني - الأعجمي المعنوي والأعجمي العلم - في مناقشة المفسرين الذين اعتمدوا في تفسير أسماء أنبياء بني إسرائيل على المعجم العربي وحده، يقول:«وأنا أيها القارئ العزيز - إن كنت لا تعرف عبرية التوراة أو يونانية الأناجيل -، بما في هذه وتلك من أعلام آرامية بل ومصرية أحياناً - لا أريد أن يفوتك شيء من حلاوة بحث أريد أن أحبره لك تحبيراً: أريد منك أن تشترط علي توثيق ما أحدثك به، فلا أكيل لك القول جزافاً آمناً ألا تكشف زيفي، لأنك لا تعلم شيئاً من أمر تلك اللغات التي ذكرت لك، ليس هذا من العلم في شيء، وإنما هو من التدليس».
إن في هذا الكتاب علماً كثيراً، وإن فيه خيراً كثيراً، وإن عليه نوراً كثيراً، وما أظن ذلك كله قد كان إلا لأن مؤلف قد تغيا به غايات نبيلة: هي خدمة كتاب الله، بالكشف عن نواحي إعجاز جديدة فيه، والأمور بمقاصدها، يقول تاج الدين السبكي:«ولقد حصل أبو زرعة على أمر عظيم ببركة حفظه للحديث، وهكذا رأينا من لزم باباً من الخير فتح عليه غالباً منه».
ويقول عبد اللطيف البغدادي:«اعلم أن للدين عبقة وعرفاً ينادي على صاحبه، ونوراً وضيئاً يشرف عليه ويدل عليه».
ويقول أبو الحسن العامري:«إن الدين كريم الصحبة، يعز من لجأ إليه، ويستر عيوب من اتصل به، مع ما يُذخر له في عاقبته من الغبطة الأبدية».