الخادعة: التحليل - الموازنة - النقد، ثم قمش علماً من هنا وسلخ علماً من هناك، واختار عنواناً أخاذاً براقاً. أقول: معنى هذا أن ذلك العمل يفوق أعمال هذا الأستاذ الكبير، الذي قدم أعمالًا ضخمة في تاريخ الأدب العربي وعصوره، أفنى فيها عمره، وأطاب بها ذكره.
إن مصطلح «التحليل» وما أثير حوله من صخب وطنطنة قد عطل علماً كثيراً، ودفع إلى كثير من التهويل والتضخيم، وغمط فضلًا كثيراً، ولقد ذكرني هذا الحديث بكتابين عظيمين، التقيت بهما في أوائل الستينات، إذ كنت طالباً بكلية دار العلوم، أولهما كتاب «أسس النقد الأدبي عند العرب» للدكتور أحمد أحمد بدوي رحمه الله، وثانيهما: كتاب «البيان العربي» للدكتور بدوي أحمد طبانة، أطال الله في عمره.
وهذان الكتابان مشحونان بالتعريفات والنصوص، لأعلام النقد والبلاغة كالجاحظ، وابن قتيبة، وأبي هلال العسكري، والآمدي، والقاضي علي بن عبد العزيز الجرجاني، والشيخ عبد القاهر الجرجاني، وابن سنان الخفاجي، وابن طباطبا العلوي، وضياء الدين بن الأثير، وأذكر أننا كنا شديدي الضيق بهذين الكتابين، وكنا نشكو منهما كل الشكوى، ولعل مما أغرانا بالضيق والشكوى من هذا اللون من التأليف: ظهور جيل جديد من صغار النقاد، بدأوا يثرثرون من خلال المقاهي الأدبية التي كانت في تلك الأيام، مثل مقهى الإنديانا بميدان الدقي، ومقهى ريش بشارع طلعت حرب، وكنا صغاراً قليلي الخبرة، ولم يتح لنا أن نعيش أيام «رسالة الزيات» و «ثقافة أحمد أمين»، فكان يسهل خداعنا بمثل هاتيك المصطلحات: الوحدة الموضوعية، والمعاناة والتجربة الشعورية، وتراسل الحواس، والمونولوج الداخلي، والدفقة الشعورية، والتعبير بالصورة، والألفاظ الموحية، الشعر المهموس، وكانت هذه الكلمات الضخمة تهزنا هزاً، فإذا رحنا نلتمسها في كلام الجاحظ وابن قتيبة والآمدي لم نجدها، فيتشد ضيقنا بكتابي الدكتورين الفاضلين، ونذم زماننا، ونلعن حظوظنا، ونود لو ضرب بيننا وبين أمثال هذه الكتب بسور ليس له باب.