وحرية التعامل مع الضمائر، غيبة وحضوراً فيما يعرف بالالتفات، والتعويل على القرائن والسياق في تخليص الكلام من كثير من الفضول والزوائد، وهو باب الحذف الذي يجعله ابن جني من باب «شجاعة العربية» وهو تعبير عجيب، انظره في كتابه الفذ: الخصائص ٢/ ٣٦٠، إلى سائر قوانين اللغة وأعرافها، حتى علم النحو الذي يظن به العسر والتشدد، ولو تأملته حق التأمل لوجدت فيه كثيراً من الرخص والإباحة، على ما قاله الأصمعي:«من عرف كلام العرب لم يكد يلحن أحداً».
ولقد تضوأت هذه اللغة العربية الشريفة على ألسنة الشعراء والخطباء، شعراً شجي النغم، ونثراً حلو الوقع، فيما بقي لنا من أدب الجاهلية. ثم كان مجلي هذه اللغة العزيزة كلام ربنا عز وجل، بما نزل به جبريل الأمين على خاتم الأنبياء محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، في هذا البيان الذي لا يطاوله بيان، ثم لقى ربنا تباركت أسماؤه على لسان نبيه المصطفى بياناً عالياً آخر، هو ما نطق به صلى الله عليه وسلم من جوامع الكلم: فصاحة صافية المورد، وبلاغة عذبة المشرع، ومنطقاً صائب الحجة.
وقد جرت لغتنا العربية بما حملته من أدب الجاهلية، وبيان الكتاب العزيز، والحديث الشريف، على أقلام الكتاب وألسنة المتكلمين وقصائد الشعراء: بياناً يأخذ منه الناس بما قدر لهم من رزق الله المقسم على خلقه، فتفاوتت حظوظهم في ذلك، فمنهم من أحسن، ومنهم من قارب، لكن البيان ظل هدفاً يسعى إليه، وغاية يشتد الناس في طلبها، ومعياراً يلجأ إليه النقاد في الحكم على الكلام وإعطاء الأدباء حقهم من التقديم والتأخير، ولعل أول من أصل هذا الفن هو أديب العربية الكبير أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، حين صنع كتابه الذي جعل عنوانه دالاً بصريح اللفظ على الغاية التي تغياها منه، وكان كتاب الجاحظ هذا مع كتاب معاصره والراوي عنه أبي محمد عبد الله بن مسلم المعروف بابن قتيبة «عيون الأخبار»، هما الأساس الأول في إرساء قواعد هذا الفن «البيان» بذكر الأدوات الموصلة إليه والمعينة عليه، من ذكر كلام العرب وخطبها وشعرها ومحاوراتها وأجوبتها المسكتة، وتوالت الكتب في هذا الطريق، ككتب الأمالي والمجالس والمختارات