ولقد كان من حسن حظنا نحن أبناء هذا الجيل أننا فتحنا عيوننا وعقولنا في أوائل الخمسينات، ورأينا القاهرة قبل أن يدهمها السيل وتغشاها المحن والنوائب، وكان من صنع الله لنا أننا نعمنا بثمرات دار الكتب المصرية: قراءة في قاعة المطالعة الشهيرة بها، واستعارة باشتراك زهيد متاح لطلبة العلم. وأخذنا نتضلع بالقراءة لتلاميذ مدرسة البعث والإحياء المذكورة، وفيما يتصل بالبيان كان هناك اسمان كبيران: مصطفى صادق الرافعي، ومصطفى لطفي المنفلوطي، وقد شق علينا الرافعي في أول الأمر.
ووجدنا في المنفلوطي واحة خصبة عامرة بالندى والأزاهير، فأي جنة فتحها لنا هذا المنفلوطي في ذلك الزمان؟ وكم دموع أراقها، وكم قلوب خفقت على بيانه الحلو الآسر الذي انساب في «العبرات» و «الشاعر أوسيرانو دي برجراك» الضخم الذي لا ينسى أنه حبب إلينا القراءة جملة، فإن هذه الليالي التي قضيناها مع بيانه المعجب لم تضع سدى، لأنها وثقت صلاتنا بالأدب عامة وبالبيان خاصة.
ومن عجب أن المنفلوطي هو الذي ردنا إلى الرافعي، وعند هذا الرافعي وجدنا دنيا أخرى حافلة بالغرائب والعجائب، لكن صورة الرافعي لم تأخذ حجمها الحقيقي عندي إلا بعد أن اتصلت بتراث الآباء والأجداد فيما قرأت وفيما نسخت وفيما حققت، وأيضاً حين توثقت علاقتي بصاحبه ووارث أدبه وعلمه أبي فهر محمود محمد شاكر، فعرفت أن هذا من ذاك، وأنها ذرية بعضها من بعض، وإن كنت أرى أن بيان أبي فهر لا يشبهه بيان، وأن علمه لا يقرن به علم، على ما فصلت في كلمتي عن كتابه الماتع «المتنبي» في الجزء الأول من «موسوعة عصر التنوير» التي أصدرها الهلال، ولو كتب أبو فهر الآن - وهو في هذه السن العالية - لزلزل الدنيا، ولرأيت ثم نعيماً وعلماً كبيراً، فهل تستجيب يا أبا فهر؟ وهل أنت مخرج ما عندك من «حديث الأحرف السبعة» و «مداخل إعجاز القرآن» و «كتاب الشعر»، شرح الله لك صدرك، وأمتع أهل الأدب ببقائك.