«الصحاح» ورتب كتابه «اللسان» على أساسها، وأخضع المدرستين الأخريين لها، ويصرح ابن منظور في مقدمته بأن عمله في معجمه لم يخرج عن حدود ما في مراجعه الخمسة، وإن كان قد استطرد إلى ذكر فوائد من قراءاته وسماعاته، ثم تعقب في أحيان قليلة بعض ما وجده في مراجعه الخمسة المذكورة، كما أشرت إلى ذلك في مقالتي عن «لسان العرب» في الهلال (مارس ١٩٩٢ م)[راجعها ص ١٧٧].
فقد ظهر إذن أن المادة المعجمية في «لسان العرب» مجموعة من مراجع خمسة، تخضع لمناهج ثلاثة مختلفة كل الاختلاف، وهذا هو سر ما يبدو من التشويش وعسر الترتيب عنده. فالتكرير وارد لا محالة في كتاب موسوعي صرح مؤلفه بأنه لم يخرج عن مراجعه الخمسة، فهو لم يبح لنفسه أن يغير شيئاً من المادة التي أمامه، غاية ما في الأمر أنه أخضعها لمنهج واحد في الترتيب، وترك كل شيء في الكتب على حاله، إلا أن يتدخل في أحيان قليلة جداً بنقد أو ترجيح، ولذلك قد تجد لديه شرحاً لشيء من غريب الحديث والأثر مختلفاً عن شرح آخر للحديث نفسه في المادة نفسها، لاختلاف مرجعه في ذلك، فقد ينقل في المرة الأولى عن «تهذيب اللغة» للأزهري، وفي الثانية عن «النهاية» لابن الأثير، بل قد تجد شاهداً شعرياً غير منسوب لقائل في موضع من المادة، وبعد قليل تجد الشاهد في نفسه منسوباً، وما ذلك إلا لاختلاف مرجعه في الحالين، وقل مثل هذا في اختلاف الشروح، والحظر اللغوي أحياناً والإباحة أحياناً أخرى، ولذلك يوصي كبار المحققين في الإحالة على ما في اللسان أن تقول:«جاء في اللسان كذا وكذا»، ولا تقول:«قال صاحب اللسان، أو قال اللسان».
فهذا هو «لسان العرب» كتاب موسوعي، جمع مادة لغوية ضخمة من خمسة كتب كبار مختلفة المناهج، أخضعها لمنهج واحد، وهو جهد شاق يحسب في موازين الرجل، ولم يكن عدلاً أن ننتظر من مؤلفه أن يصطفي من هذه المعاجم الخمسة معجماً يصنعه على هوانا ووفق مشيئتنا، وعلى حسب مواصفات العصر الحديث - عصر الحاسبات الآلية والكمبيوتر - يجلس الواحد منا متكئاً على أريكته