للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لا يضر غيره بإبطال حق أو إحقاق باطل، وما أصدق كلمة الأستاذ إحسان عبد القدوس رحمه الله: "إني لا أكذب ولكن أتجمل"، فالتجمل مطلوب، أما الكذب فمرفوض، ومن أسوأ مظاهر الكذب: الكذب مع النفس، بأن يطوي الإِنسان نفسه على شيء، ويقابل الناس بشيء آخر، وهو داء معروف في كل الأزمان والعصور، لكنه زاد في أيامنا هذه، لأسباب ودواعٍ كثيرة، يعرفها الناس ولا يجهلونها.

على أن بعض الناس قد يتظاهر بأنه يجري في طريق الإِنصاف وهضم النفس، فيزعم أنه يعرض على الناس شيئاً من عيوبه ومساوئه، ولكنه يترفق في ذلك ترفقاً واضحاً، بل إنه يخادع، فيقول: إن من أشد عيوبي الثقة الزائدة بالناس، أو إن من مساوئي التفريط في حقوقي، وبذل حبي لمن لا يستحقه من الناس، وهذه كلها ضروب وألوان من خداع النفس، لأنه كلام صدره ذكر العيوب والمساوئ، وعجُزه ضارب في مدح الذات بعروقه، فهو من باب تأكيد المدح بما يشبه الذم، كما يقول سادتنا البلاغيون، ولعل كثيراً من السير الذاتية التي نقرأها في هذه الأيام من هذا الباب، فضلاً عما في بعضها من ثلب للآخرين وتجريحهم.

على أننا لا ننتظر ممن يكتبون سيرتهم الذاتية أن يكشفوا لنا عن عيوبهم الفاضحة، ويطلعونا على عوراتهم ومساوئهم القادحة، لأن هذا يصادم موروثاتنا الدينية وأعرافنا الأخلاقية، ثم إنه من النبالة والمروءة أن تسكت أنت عن ذكر سوءاتك، ويسكت الناس عن ملاحقتك واستنطاقك بما تكره، وفي هذا وذاك نعود إلى موروث ديني:

فمن الأول: ما أخرجه مسلم في صحيحه "باب النهي عن هتك الإِنسان ستر نفسه من كتاب الزهد والرقائق" من حديث أبي هريرة، يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "كل أمتي معافاة إلا المجاهرين، وإن من الإِجهار أن يعمل العبد بالليل عملاً، ثم يصبح قد ستره ربه، فيقول: يا فلان، قد عملت البارحة كذا وكذا، وقد

<<  <  ج: ص:  >  >>