للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وبعد: فهذا منهج محمود محمد شاكر، في نشر التراث، سُقْتُه على سبيل الوجازة والاختصار، وقد أدرته على علمه باللغة والنحو والشعر، وبقي بابان من أبواب العلم، ظهر عليهما أبو فهر ظهوراً بجناً، وامتلك أسباب القول فيهما والحكم عليهما امتلاكاً واضحاً: أعني علم التاريخ، وعلم الجرح والتعديل (قَبول روايات الحديث النبوي وردّها)، ولكن المقام لا يتسع الآن للإِفاضة في الكلام على معرفته بهذين العلمين الكبيرين، فلعلي أفرد لهما مقالة أخرى، استأنف بها كلاماً عن هذا الرجل الذي يعد رمزاً ضخماً من رموز حضارتنا العربية، ولكن أسباباً كثيرة حجزته عن الناس، وحجزت الناس عنه، وكان هو نفسه احد الأسباب المعينة على ذلك، بهذه العزلة التي ضربها على نفسه، ثم بتلك الصرامة التي يعامل بها الأشياء والناس، والبشر منذ أن برأهم خالقهم يحبون الملاينة والملاطفة، ثم المصانعة التي أشار إليها زهير بن أبي سلمى في معلَّقته الشريفة، ولكن أبا فهر اختار الطريق الأعظم، وترك الطرق التي تتشعب منه، وهي التي تسمَّى: "بُنَيَّات الطريق"، فكاشف وصارح فيما بينه وبين نفسه، وفيما بينه وبين الناس، ومنذ أن ظهرت أمامه غواشي الفتن التي أحدقت بأمته العربية؟ فتح عينه، وأرهف سمعه، ثم شد مئزره وأيقظ حواسه كلها، يرصد ويحلل ويستنتج، ثم قال: "فصار حقاً علي واجباً ألا أتلجلج، أو أحجم، أو أجمجم، أو أُداري"، أباطيل وأسمار ص ١٠.

وكان أن دخل بيته بعد أن استتب الأمر له: علماً وفكراً، مئات من طوائف الناس، من شرق وغرب جالسوه واستمعوا له، فمنهم من آمن بمنهجه، ومنهم من صد عنه، وكان على الذين آمنوا بمنهجه أن يصبروا على لأواء الطريق، ويحتملوا أعباء المتابعة، على ما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "من أحبَنا أهل البيت فلْيُعِدَّ للفقر جِلباباً"، ولكن لأنه منهج صعب مكلف، وطريق عسر شائك، فما آمن معه إلا قليل!

هذا، وما أحب أن أختم كلمتي هذه قبل أن أؤكد ما بدأت به حديثي: أن أبا فهر إنما دخل ميدان تحقيق التراث خدمة وعوناً على قضيته الكبرى: قضية تاريخ أمته

<<  <  ج: ص:  >  >>