حصلت، ولا تقف عند ما قاله الأوائل، روي عنه أنه قال:"إذا سمعت الرجل يقول: ما ترك الأول للآخر شيئاً فاعلم أنه ما يريد أن يفلح".
وتروى عنه حكايات كثيرة في شغفه بالعلم والتحصيل. يقول أبو هفان:"لم أر قط ولا سمعت من أحب الكتب والعلوم أكثر من الجاحظ، فإنه لم يقع بيده كتاب قط إلا استوفى قراءته كائناً ما كان، حتى إنه كان يكتري دكاكين الوراقين (باعة الكتب) ويبيت فيها للنظر". وقد استغرقته القراءة حتى أنسته ما لا ينسى. روي عنه أنه قال:"نسيت كنيتي ثلاثة أيام حتى أتيت أهلي فقلت لهم: بم أكنى؟ قالوا: بأبي عثمان". (وهذا شبيه بما نقوله في أيامنا، في مقام التوعد والتهديد: والله أنسيك اسمك).
عاش الجاحظ النصف الثاني من القرن الثاني، والنصف الأول من القرن الثالث، وفي ذلك العصر بالتحديد والقطع - عصر هارون الرشيد وابنه المأمون - وُضعت أصول العلوم العربية، فالبصرة والكوفة وبغداد ومصر ودمشق وقرطبة وسائر عواصم الإِسلام تغلي وتموج بالرواية الشفوية والسماع والتلقي والتدوين، وقد تم نقط المصحف الشريف، وثبتت قراءاته المتواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم المنزل عليه، وعلماء الحديث يجمعونه، ويؤسسون فيه هذا العلم الشامخ "الجرح والتعديل"، وهو أساس القَبول والرد، ويأتي البخاري ومسلم وبقية الستة من أصحاب الجوامع والمسانيد.
وفي ذلك الوقت أيضاً يظهر الأئمة الأربعة، ويدوّنون الفقه الإِسلامي: مالك وأبو حنيفة والشافعي وأحمد بن حنبل، وينفرد الشافعي من بينهم بتأسيس علم أصول الفقه، ويضع فيه مؤلفه الشهير "الرسالة"، ثم يقيم الخليل بن أحمد أساس أول معجم عربي "العين"، ثم يهتدي إلى ضبط أنغام الشعر وبحوره، ويؤسس فيه علماً لم يسبق إليه، وهو "علم العروض" الذي يسميه بعض أهل زماننا "موسيقى الشعر"، وما هي إلا "العروض"، فلا تُسمَّه بغير هذا!
وينهض تلميذ الخليل: سيبويه، فيضع "الكتاب" في علم النحو.