فتبهره صفوف الكتب ويعيش مع ترابها أحلى قصة كفاح نسجت خيوطها موهبة فذة ورفدتها عبقرية نادرة.
استمع إلى الأستاذ المحقق محمد عبد الجواد يصفه في هذه المرحلة من حياته في كتابه:«تقويم دار العلوم الذي صدر عام ١٩٥٩ م» يقول: «من أكثر من ربع قرن مضى توجهت إلى دار الكتب المصرية، أبحث عن موضوع لغوي، فصادفني بين ولدانها فتى في منتصف العقد الثاني من عمره، طلب إليه الأمين أن يجيب طلبتي، فإذا بي أمام مطلع عالم بالموضوع، وأضاف إلى إجابته ذكر جملة من المظان التي يصح الرجوع إليها فيه. فعجبت لهذا الشاب وتمنيت لو أن «دار الكتب» يكون بين موظفيها عدد من المرشدين من مثله، والذين أدعوهم «فهارس ناطقة».
وبعد أن يعدد الأستاذ عبد الجواد آثار الفقيد يضيف:«وترى فؤاداً هذا - في تحقيق المخطط «حـ» (يقصد طبقات الأطباء والحكماء» - عالماً من كبار العلماء بدقائق الحقائق التاريخية، وكتب السير والطبقات، فضلًا عن سعة الاطلاع والتمكن من المادة التي يبحث عنه ويفحص عن صحتها. أما المباحث اللغوية وتحقيق الأسماء والمصطلحات، فتعجب عن اطلاعك على مجهوده، كيف يتكلم عن اليونانية واللاتينية، إلى الفرنسية والألمانية والتركية وغيرها، واثقاً مما يقول مرجحاً مضعفاً». انتهى كلام الأستاذ محمد عبد الجواد.
وفي هذه الحقبة من التاريخ كانت دار الكتب المصرية تضم نفراً من العلماء الأفذاذ الذين نذروا حياتهم لخدمة التراث العربي والفكر الإسلامي في صمت معجب، حيث قدموا شوامخ النصوص العربية، كتفسير القرطبي والأغاني والنجوم الزاهرة ونهاية الأرب، على أدق ما يكون الإخراج ضبطاً وتحقيقًا. ومن هؤلاء العلماء أذكر الأساتذة عبد الرحيم محمود وزكي العدوي وحسن حسين وعبد المجيد الأقدمي ومحمود إمام. ويبرز من بين هذا النفر الكريم الشيخ محمد عبد الرسول، وكان رحمه الله حجة في المخطوطات العربية، وتتوثق صلة الفتى به ويتتلمذ له فيصيب على يديه خيراً كثيراً.