للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقد اضطر فقيدنا في هذه المرحلة من حياته إلى أن يأكل من نسخ الكتب، فنسخ كثيراً من المخطوطات. وقد حدثني أن يديه لا تزالان ترتعشان من طول ما نسخ. وحقاً ما قال، فقد كنت إذا حدقت فيه وهو يكتب لا تخطئ رعشة خفيفة في يديه. ومن الذين كان ينسخ لهم - كما حدثني - الدكتور محمود الخضيري أستاذ الفلسفة الإسلامية رحمه الله، والمستشرق الفرنسي شال كونس المشتغل بتحقيق كتاب «الجيم» لأبي عمرو الشيباني.

وكان رحمه الله يفخر بنسخ الكتب ويقول لي: إنه مهنة العلماء كياقوت الحموي صاحب معجم الأدباء. وبفضل هذا النسخ حصَّل كثيراً من المعارف، ووعت ذاكرته ما لا يحصى من أسماء الكتب. وحين أصبح قادراً على تمييز الخطوط وردها إلى العصر الذي كتبت فيه، استناداً إلى نوع الحبر وكثافة الورق وطريقة الكتابة، من إهمال للنقط أو إعجام. أضف إلى هذا أن خطوط العلماء كانت متميزة في عينه، فهذا خط الصلاح الصفدي، وذاك قلم ابن حجر العسقلاني. وكان يقول لي: إن خط الصفدي لا تخطئه العين، فهو خط منسق جميل، ومن خصائصه كيت وكيت، وإن قلم ابن حجر لا يتوقف فتكاد كلماته تتشابك. وكذلك كان.

وكان غفر الله له نسيج وحده في قراءة ما يكتب في صدر المخطوط من إجازات أو تملكات أو توثيق، ثم كان حجة في تقويم كل ذلك وبيان زيفه من صحيحه، مع قدرة فائقة على قراءة الكلمات المصحَّفة وتقويم العبارات المزالة عن وجهها. ويا لحسرة القلب، لقد مات بموت هذا الرجل علم كثير. وكم كنا نتمنى أن ينسأ الله في أجله حتى نستطيع نحن أبناء هذا الجيل أن نعي شيئاً من هذا العلم الكثير، كما كان هو يتمنى أن يمتد به العمر ويُكفى السعي المضني وراء الرزق ليدوَّن هذا المحصول فتخرج تلك المعرفة إلى الناس في كتاب مقروء.

أجل، كان الأستاذ فؤاد سيَّد وريث تلك المدرسة الجليلة التي أحبت المخطوطات العربية ووقفت عليها مالها ومنحتها كل حياتها، مدرسة محمد محمود الشنقيطي وأحمد تيمور وأحمد زكي.

<<  <  ج: ص:  >  >>