صلتها بموروثها العظيم، ثم وقوعها في حبائل العدو، ينهش في عظمها ويُحكم الغُل مي أيديها، فسارت حياته في طريقين استويا عنده استواء واضحاً:
الأول: العلم والمعرفة يعبّ منهما عباً، ويغُري الناس بهما إغراءً.
والطريق الثاني: التنبه الشديد لما يحاك لأمتنا العربية من كيد ومكر، وقد حارب في سبيل كشف ذلك وتعريته في جبهات كثيرة، مما فضَّلتُه في غير موضع من كتاباتي.
وقد أورثه شعوره بذلك الهم الكبير حدَة في الطبع، وشراسة في الخطاب. والحِدَّة: إذا كان هذا هو مبعثها ومحرِّكها لم تكن مذمومة، فقد جاء في الحديث:"الحِدَّة تعتري خيار أمتي"، قال ابن الأثير:"الحِدَّة كالنشاط والسرعة في الأمور والمضاء فيها، مأخوذ من حد السيف، والمراد بالحدة هاهنا: المضاء في الدين والصلابة والقصد في الخير، ومنه الحديث: "خيار أمتي أحِدَّاؤها"، وهو جمع حديد، كشديد وأشداء".
وقد تحدثت يا أستاذ حسين عن قلة إنتاج الرجل، مع هذه الشهرة العريضة والقراءة والثقافة التي لم يُحصل طه حسين جزءاً من المائة منها، وقد صدقت في هذا، لكنك لم تصدق في ذلك السياق كله، فقد ذكرت أنه مع شهرته لم يترك غير كتاب عادي عن المتنبي، وديوان شعر هزيل ضحل، ثم تحقيق لبعض كتب التراث. وهذا كله باطل:
فكتابه عن المتنبي ليس كتاباً عاديّاً، فقد عرض فيه لقضايا ثلاث، لم يكشف القول فيها غيره، ولم يحسم الحكم فيها سواه: نسب المتنبي - حبه لخولة أخت سيف الدولة - ترتيب القسم الثاني من شعر المتنبي على السِّنين. وقولك:"ديوان شعر هزيل ضحل" ليس لمحمود شاكر ديوان شعر مجموع، وإن كان له شعر معروف، أذاعه من قديم وطرب له الناس. ولعلك تقصد "القوس العذراء"، وهي قصيدة طويلة مستوحاة من قصيدة للشمَّاخ، وهذه "القوس العذراء" من عيون الشعر