وإذا كنت ترى أن هذا الإِنتاج كله قليل بالنسبة لرجل في مثل قامة محمود شاكر: فإن أثر العالم لا يقاس بكثرة إنتاجه، ففي تاريخنا التراثي أعلام احتلوا مكانة عالية بكتاب واحد أو كتابين ليس غير، فسيبويه إمام النحاة ليس له إلا "الكتاب"، وليس لابن سلاَّم إلا "طبقات فحول الشعراء"، والقَرْشي ليس له إلاَّ "جمهرة أشعار العرب"، وابن عبد ربه ليس له إلا "العقد الفريد"، وابن خلكان ليس له إلا "الوفيات"، وليس لأبي الفرج الأصبهاني إلاَّ "الأغاني" و "مفاتل الطالبيين".
وفي عصرنا الحديث لم يترك الأستاذ أمين الخولي من الكتب ما يجاوز أصابع اليد الواحدة، ومع ذلك فإن تلاميذه يرونه رأسا في المنهج، وأنه فتح لهم أبواباً من النظر والتأمل لم يفتحها غيره.
ويتبع وصف محمود شاكر بالحِدَّة وصفه بالتعالي والاعتداد بالنفس وحب الثناء. وهذه القضية ينبغي أن تعالج في هذا الإِطار:
العلماء الكبار حين يرون أن الله قد وهبهم ما لم يهبه لغيرهم، يرتفعون بأنفسهم عما حولهم، وفي بعض اللحظات يرون أن من عداهم لا وزن لهم. رُوي أن إبراهيم بن المهدي، وهو أخو هارون الرشيد، وكان حاذقاً بالغناء، اختلف هو وإسحاق الموصلي - وكان أيضاً من أساطين الغناء والموسيقى - اختلفا في صوت، ففال إبراهيم لإِسحاق:"إلى من نتحاكم والناس مَن عدانا بهائم"؟ ، وقال الأصمعي: سمعت أبا عمرو بن العلاء يقول - ولم يقله إن شاء الله بغياً ولا تطاولاً-: "ما رأيت أحداً قطُّ أعلم مني".
على أن حب الثناء مركوزٌ في الطباع، ثابت في أصل الخِلقة. قال أبو حيان التوحيدي: "ومن لم يرغب في الثناء فقد رغِب عن ملة إبراهيم؛ لأن الله تعالى أخبر أنه سأله ذلك فقال:{واجعل لي لسان صدق فى الآخرين}[الشعراء: ١٨٤]، ولسان الصدق: هو الثناء الحسن.