للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وإذا بلغ الكبار هذا المبلغ من سعة العلم وغزارة المعرفة كان حقيقاً على الناس أن يُوسِعوا لهم في المعذرة، وأن يتغمدوا أخطاءهم. ذكر الحافظ الذهبي في ترجمة التابعي الجليل "قتادة بن دِعامة الشَدوسي" أنه كان يرى القول بالقدر، وهي مقالة منكورة عند أهل السنة والجماعة، ثم عقَب الذهبي على ذلك، فقال في كتاب سير أعلام النبلاء ٥/ ٢٧١: "ثم إن الكبير من أهل العلم إذا كثر صوابه، وعُلم تحزَيه للحق، واتسع علمه، وظهر ذكاؤه، وعُرف صلاحُه وورَعُه وإتباعُه، يُغْفر له زَلَله، ولا نضلِّله ونطرحه وننسى محاسنه". وهذا كلام عال نفيس في تأصيل موضوعية النقد ورحابة الصدر العلمي، والإِنصاف في تغليب الإِيجابي على السلبي في الحكم على الرجال، على حد قول زفر بن الحارث:

أيذهب يومٌ واحدٌ إن أسأتُه ... بصالح أيامي وحُسْنِ بلائيا

وقول المتنبي:

فإن يكن الفعل الذي ساء واحداً ... فأفعاله اللائي سَرَرْن ألوفُ

وقول الآخر:

وإذا الحبيب أتى بذنبٍ واحدٍ ... جاءت محاسنُه بألف شفيع

وهكذا ينبغي أن يُنظر إلى محمود شاكر، أنه من هذا الطراز؟ رجل حصَّّل من العلم ما لم يحصله غيره، وجمع من الكتب ما لم يجمعه سواه، وقرأ قراءة ما أطاقها أحد من جيله، ثم إنه راعه ما رأى فيه الأمة من جهل وتأخر، وفزع من قضية انتحال الشعر الجاهلي، واهتاج لما رآه من محاولة اغتيال تاريخ الأمة العربية، في علومها ومعارفها كلها، وطَمْس معالم حضارتها، ولم تكن المسألة عند الرجل من باب التوهم والظنون، والتماس المعابة عند الآخرين، فقد قامت دلائلها عنده واضحة جلية، ثم أثبتت الأيام صدقها فيما بعد.

وحين ظهرت أمامه صدع بالحق وكشف العلة، وحطَّم الأغلال، ولم يبال بمن يقع عليه مِعْوله، قديماً كان أو حديثاً، من أبناء دينه أو من غيرهم، وكثير من الناس

<<  <  ج: ص:  >  >>