محتاجون دائماً إلى وفرة من الألفاظ وسعة في الكلام، لا يفتحهما لهم ذلك الكلام السهل القريب.
ودعوة الجارم إلى استحياء الغريب من اللغة إنما هي دعوى في حق موضعها؛ لأن هذا الغريب من صميم اللغة، والدعوة إلى هجرة والتجافي عنه ليست من البر بهذه اللغة الشريفة، بل هي عدوان عليها، وتحيف لشطر كبير منها. وهذه الألفاظ التي ينكرها بعض أهل زماننا ويستبشعونها لست تجدها في النصوص الأدبية فقط، من شعر ونثر، بل إنك واجدها في كتب الأنساب والتاريخ والبلدانيات (الجغرافيا) وكتب الفلك والطب والفلاحة والزراعة، وسائر ما كتب الأوائل من علومهم وفنونهم.
وقد نطق شعر الجارم بهذه الرغبة العارمة في استحياء تلك الألفاظ التي يتحاشاها الأدباء والشعراء في زماننا هذا؛ زهادة فيها أو جهلاً بها، أو استسهالاً للألفاظ القريبة السهلة المستهلكة، فيقول في واحدة من كريم شعره:
كم لفظة جهدت مما نكررها ... حتى لقد لهثت من شدة التعب
ولفظة سجنت في جوف مظلمة ... لم تنظر الشمس منها عين مرتقب
كأنما قد تولى القارظان بها ... فلم يؤوبا إلى الدنيا ولم تؤب
ثم صدق شعر الجارم مقترحه، فكثر في شعره الغريب كثرة ظاهرة، وهذا مثل واحد من شعره، من قصيدته في مدح الشيخ الإمام محمد عبده:
المجد فوق متون الضمر القود ... تطوي الفلا بين إيجاف وتوخيد
إذا رمت عرص صيهود مناسمها ... رمت إليها الليالي كل مقصود
أو مزقت طيلسان الليل من خبب ... كست خيال الأماني ثوب موجود
مولاي علمتني كيف الثبات إذا ... لم يترك الرعب قلباً غير مزءود
على أن مما يجب التنبه له أن جميع شعراء النهضة الشعرية الحديثة، بدءاً من محمود سامي البارودي حتى شاعرنا علي الجارم كانوا عارفين بهذا الغريب من