وقد رأيا فيه نبوغاً صالحاً، فقرَّباه منهما وأحلَّاه من نفسيهما محلًا كريماً. وفي مجلسهما عرف أصول الكتب، ووقف على طرائق المصنفين، وألمَّ بمصطلحات الفنون، ثم تلقى عنهما علماً كثيراً. والتلقي كان سمة عصور ازدهار العلم، فهو الطريق الصحيح لتحصيل المعرفة، وآفة العلم في زماننا أنك قلَّ أن تجد من تستفتيه أو تتلقى عنه، وليس أمامك إلاَّ أن تضرب في بحر لجي غير آمن من زيغ البصر وضلال التأويل.
ولقد أحبَّ رشاد عبد المطلب الكتاب العربي حباً ملك عليه نفسه وحسه، ولم يصرف عنه بشيء من مطالب الصبا ونوازع الشباب. أحب الكتاب وحرص عليه كأنه ولده رآه على يأس، وعرفه كما يعرف الناس آباءهم. وقد دفعه هذا الحب وذلك الحرص إلى أن يتلمسه: مطبوعاً في مطبعة درست وذهب رسمها، أو منشوراً في مجلة نسي الناس اسمها، أو مخطوطاً في خزانة عامة أو خاصة خفي على الدارسين مكانها. وقد وهب الله له ذهناً صافياً، سريع اللمح قوي الإدراك، وذاكرة محيطة جامعة تعرف الشاردة والواردة.
ولقد كان من صنع الله لي وتوفيقه إياي أني عرفته منذ خمسة عشر عاماً، قضيت منهاً عشرة كوامل، لصيقاً به مجاوراً له، وقد رأيت منه العجب: يأتيه الدارس ويطرح أمامه موضوع دراسته، وما بين يديه من مصادر وموارد، ولم يكد يفرغ الدارس من كلامه حتى يندفع رحمه الله يهدر كالشلال، ذاكراً ما لا يحصى كثرة من المراجع مما لم يخطر للطالب على بال، فإذا رأى علامات الرضا وأمارات السرور على وجه صاحبه، قنع بذلك سعيداً جذلان، وإذا ما أسرف صاحبه في مديح أو ثناء، قال له بصوت ودود ولهجة حانية: حسبك، فهذا شيء علقناه عن مشايخنا، ثم قال: وما أوتيته على علم عندي. ثم لم يزل بصاحبه يغريه بموضوعه، ويمده بالمراجع من مكتبته، ثم يقدمه إلى أستاذه المشرف عليه، ويعرفه بالصفوة من العلماء. وأشهد - ويعلم الله - أن كثيراً من الرسائل الجامعية صنعت في بيت رشاد عبد المطلب، ووضعت خطوطها الأولى على مكتبه، ولكن الناس يجحدون.