الحديث على القرويين. أما المنوني والكتاني فقد قدما للتراث العربي في المغرب يداً باقية وأثراً مذكوراً، فكم اكشفا من مخطوطات، وكم صحَّحا من نسبة كتب لغير أصحابها، ولولا خوف الإطالة لذكرت من هذا وذاك الشيء الكثير، ثم كانت مساعدتهما المخلصة وعونهما الكريم لكل من يرد المغرب أو يستفتيهما من خارجه، فلم يحجبها علماً ولم يبخلا بنصح.
ويمثل هؤلاء الأعلام الثلاثة الطبقة الأولى في الواقع الأدبي المغربي المعاصر، وهي الطبقة التي تخرجت في القرويين، واتصلت بالتراث في أصوله الأولى ومنابعه النقية بعيداً عن عبث المختصرين وضلال المتأولين.
وقد عاشت هذه الطبقة تجربة الحماية الفرنسية بكل مرارتها، فلم تخدع عن لغتها وتراثها، وظلت خفيفة به حريصة عليه مستزيدة منه.
وبجانب هؤلاء الأعلام الثلاثة عرفت من فحول هذه الطبقة: عبد الله كنون في طنجة، وسعيد أعراب، ومحمد داود، ومحمد بن تاويت - في تطوان، والرحالي الفاروقي في مراكش، وعبد السلام بن سودة في فاس، وفي الرباط: عبد الله الجراري، وعبد العزيز بن عبد الله، ومحمد الفاسي، عبد الوهاب بن منصور، ومحمد بن العباس القباح، والحاج محمد باحنيني وزير الثقافة، وهذا الرجل نمط وحده، فهو أديب مترسل، تستمع إليه فيحملك إلى دنيا حافلة بالنغم الحلو واللفظ المعجب والمعنى الشريف. وقد أتيح لي أن أستمع إليه في أمسية شعرية بالرباط، قدم فيها الشاعر السوري الكبير عمر أبو ريشة، فخلتني مع بيان الجاحظ وترسل ابن العميد، ولا أعتقد أن لهذا الأديب نظائر كثيرة في المشرق والمغرب.
وما زالت هذه الطبقة تواصل عطاءها السخي، وعلى وقع خطواتها سارت الطبقة الثانية من أدباء المغرب، وهي طبقة أصابت من مائدة القرويين العامرة، ثم اتصلت بالمناهج الحديثة وحصلت على أرقى الشهادات الجامعية، واتخذت مكانها في قاعات الدرس بالجامعة والمعاهد العلمية، وهذه الطبقة هي أمل المغرب