للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وقد نهَجَ الأئمَّةُ مِن السلفِ بيانَ الحقِّ والبعدَ عن الجدالِ الزائد فيه، وقد قيل لمالك: الرجُلُ له عِلْمٌ بالسُّنَّةِ يجادِلُ عنها؟ قال: "لا، ولكنْ يُخبِرُ بالسُّنَّة؛ فإنْ قُبِلَ منه، وإلَّا سكَتَ" (١).

وإيضاحُ الحقِّ بلا جدالٍ ولا مراءٍ زائدٍ عن الحُجة، يُبقِي في قلبِ المخالِفِ قبَسًا منه وإنْ لم يُظهِرْ قَبُولَه، وربَّما حمَلَهُ ذلك على المراجَعةِ في السِّرِّ؛ تهيُّبًا من الرجوع في العَلَن؛ فللنَّفْسِ سُلْطانٌ وعِزَّةٌ لا يَغلِبُها بالحقِّ إلا النُّدْرةُ مِن أصفياءِ الناس.

والواجبُ على المتكلِّم: بيانُ الحقِّ بحُجَّتِهِ بما يَفهَمُهُ السامعُ والقارئُ بلا تكلُّف، مع الأخذِ في الحُسْبانِ: المعانِدُ، وضعيفُ الفَهْم، والتفريقُ بينهما؛ فإنَّ بعضَ مَن يَعجِزُ عن الفهم، يظُنُّ أنَّ القائلَ يَعجِزُ عن التعبير؛ وهذا يُمكِنُ تقريبُهُ بالرِّفْق، ويُمكِنُ أن يُبعَدَ فيَصنَعَ منه الإبعادُ معانِدًا بالشِّدَّة.

ولم يَزَلِ العلماءُ يعرِّفونَ الإنسان ويذكِّرونَهُ بذلك، ويعرِّفونَهُ بحقِّ ربِّه عليه، وذلك في كلِّ بلدٍ، وفي كلِّ زَمَن، ولم تَخْلُ بلدٌ مِن بلدانِ الإسلامِ مَشرِقًا ومَغرِبًا مِن مبلِّغٍ عن اللهِ مُقِيمٍ للحُجَّةِ على الخلق؛ وهذا مقتضى حفظِ اللهِ لدينِهِ أنْ سخَّر له حَفَظةً يَحفَظُونَهُ ويبلِّغونه.

وفي المغرِبِ أئمَّةٌ على آثارٍ مِن سلفٍ؛ فقد نَزَلَها صحابةٌ وتابعون، وأئمَّةٌ مهتدون، وأخَذَ عنهم أهلُها، ومنهم أبو محمَّدٍ عبدُ اللهِ بنُ أبي زيدٍ القَيْرَوَانيُّ، وله كتبٌ على آثارٍ مِن السلفِ في الأصولِ والفروع، ومنها كتابَاهُ: "الرِّسَالة"، و"الجامِع"، وقد أبان فيهما اعتقادَ السلفِ في


(١) "جامع بيان العلم" (١٧٨٤).

<<  <   >  >>