للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

مسلكٌ جرَى عليه بعضُ أهلِ العربيَّةِ؛ كأبي زكريَّا يحيى بنِ زيادٍ الفَرَّاءِ، وأبي العبَّاسِ محمَّدٍ المبرِّد، وغيرِهم، ثم بدَأَ يَلتئِمُ شَعَثُهُ ويَجتمِعُ شتاتُهُ بعد ذلك.

* علمُ الكلامِ والإمامُ مالكُ بن أَنَس:

وقد كان مالكٌ مِن المعظِّمينَ للأَثرِ، المحذِّرينَ مِن علمِ الكلام؛ وذلك أنَّ الأثَرَ يقيِّدُ العقلَ للوقوفِ عمَّا لا يُحسِنُهُ، وعلمُ الكلامِ يُطلِقُهُ ويجسِّرُهُ باسترسالٍ على ما لا بُرْهانَ له به؛ حتى يكونَ منتهاهُ على حالَيْنِ:

• إمَّا أن يقرِّرَ ما لا بُرْهانَ له به مِن مشابَهةِ الخالِقِ للمخلوق، ويُحدِثَ مِن لوازمِ الصفاتِ صفاتٍ وتفسيراتٍ، حتَّى لو كان في صفةٍ ثابتةٍ بالدليل، لم يُجِزْ له ذلك الأخذَ بتلك اللوازم بإطلاق.

• وإمَّا أن يَستحضِرَ باسترسالِهِ معانيَ باطلةً؛ فيَرجِعَ على أصولِهِ بالنفيِ والنقضِ، ويَتحايَلَ على الحقائقِ بالتأويلِ والتفويضِ التامِّ.

والوقوفُ على الحديثِ والأثَرِ براءةٌ مِن الخَوْضِ فيما لا عِلْمَ للإنسانِ به، وأسلَمُ لِدِينه، وأجمَعُ للمسلِمِينَ، مِن التفرُّقِ في معرِفةِ ربِّهم وصفاتِه.

ومعلومٌ أن الرؤوسَ الذين نشَأتْ فيهم الفلسفةُ والكلامُ يَقِلُّ فيهم علمُ الأَثَر؛ لأنَّ الأثَرَ يَحُدُّ العقلَ مِن الخوضِ فيما لا يَعلَمُ، والكلامُ يُرسِلُه، ثُمَّ إنَّه لا حدَّ لخيالِ العقلِ في الغيبيَّاتِ ولا منتهَى له، وكثيرٌ مِن فرعيَّات المتكلِّمين في الأسماء والصفاتِ والغيبيَّات، لا رأيَ لأهلِ السُّنَّة فيه، ويظنُّون أنَّ هذا علمٌ يَعجِزُونَ عنه، وإنما يُمسِكُ أهلُ السُّنَّة عنه؛ تعظيمًا لله، وأن يقولُوا على الله ما لا يَعلَمُونَ: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: ١٦٩]، والمتكلِّمون لا ينتهون إلى فرع.

<<  <   >  >>