للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

* لا يُنسَبُ الشرُّ إلى الله:

وليس مِن الأدبِ مع اللهِ نسبةُ الشرِّ إليه على سبيلِ التخصيص؛ وقد قال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-؛ كما في "مسلِمِ": (وَالخَيْرُ كُلُّهُ في يَدَيْكْ، وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكْ) (١).

ومِن أدَبِ إبراهيمَ الخليلِ مع ربِّه: قولُهُ: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء: ٨٠]؛ فنسَبَ المرَضَ إلى نَفْسِه، والشفاءَ إلى الله، مع أنَّ كلَّ شيءٍ مِن الله.

وكذلك في قولِ الخَضِرِ لمَّا كان يَخرِقُ السفينةَ، وظاهرُهُ شَرٌّ؛ قال: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} [الكهف: ٧٩]؛ فنسَبَ عَيْبَها إلى نَفْسِه، ولكنَّه لمَّا ذكَرَ الخيرَ الحاصلَ للغلامَيْن، نسَبَهُ إلى اللهِ؛ فقال: {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا} [الكهف: ٨٢]، مع أنه هو الذي خرَقَ السفينةَ، وهو الذي أقام الجِدَارَ، ولكنَّ اللهَ جعَلَهُ سببًا، واللهُ لا يُقدِّرُ شرًّا محضًا؛ فنسَبَ الخيرَ إلى الله، ونسَبَ الشرَّ الظاهِرَ إلى غيرِه.

والشبهةُ التي جعَلَتْ قدماءَ الفلاسِفةِ مِن أربابِ المِلَل، يَنفُونَ علمَ الله بخلقِه، هي وجودُ الشَّرِّ في الكَوْن، وقد بيَّن مذهبَهم وشرَحَهُ ابنُ ميمونٍ القُرْطُبيُّ الفيلسوفُ اليهوديّ (٢).

وقد فَرَّ بعضُ الفلاسفةِ والمتكلِّمينَ إلى نفيِ نسبةِ تقديرِ الشرِّ إلى الله، وأراد تنزيهَ الله، فوقَعَ فيما هو أعظَمُ مِن ذلك، وهو: أن يَجعَلَ في الكونِ مدبِّرًا وخالِقًا غيرَ الله، وأنه يكونُ في كونِهِ ما لا يُرِيدُه؛ فيُعصَى وهو لا يُرِيدُ العصيانَ قَدَرًا؛ تعالى اللهُ عن ذلك.


(١) مسلم (٧٧١) من حديث علي بن أبي طالب.
(٢) "دلالة الحائرين" (٣/ ٥١٨ - ٥٢٠).

<<  <   >  >>