للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وقولُهم هذا قريبٌ مِن حَمْلِ رجُلٍ كبيرٍ قويٍّ حجارةً ثقيلةً يَقدِرُ عليها وحدَهُ، فيُشارِكُهُ فيها طفلٌ صغيرٌ -بيدٍ ضعيفةٍ- لا يَقوَى على تحريكِ الحجارةِ، فضلًا عن حَمْلِها؛ فيَدُ الطفلِ مقترِنةٌ بالفعل، لكنَّها غيرُ مؤثِّرةٍ في الحَمْل.

وهذا القولُ مِن الأقوالِ التي لا يَقبَلُها النصُّ، ولا يعضُدُها العقل، ولا يؤيِّدُها الحِسّ؛ فالعاقلُ يفرِّقُ بين الرَّعْشةِ التي تَغلِبُ بَدَنَهُ بلا اختيار، وبين فِعْلِهِ باختيارِه.

وقد كان جماعةٌ مِن فضلاءِ الأشاعِرةِ لا يقولونَ بذلك؛ كالباقِلَّانِيِّ (١)، وغيرِه.

* الحتميَّةُ السَّبَبِيَّةُ:

ونشَأَ قولُ القائلينَ بالحتميَّةِ السببيَّة؛ وهم الذين يَجعَلُونَ الكونَ منتظِمًا بنظام محكومٍ لا يخرُجُ عنه، وكلُّ واقعةٍ لا يُمكِنُ أن تكونَ إلَّا كذلك، ولا شأنَ لأحدٍ فيها؛ فإنَّ اختيارَ اللهِ إنَّما كان في أصلِ الإيجاد، لا في تتبُّعِ المعادَلاتِ ونتائجِها؛ فلا يَرَوْنَ أنَّ للإلهِ إرادةً تتعرَّضُ لذلك النظامِ بالتبديلِ والتغييرِ.

وهؤلاءِ جبريَّةٌ في المبتدَأِ، وقدريَّةٌ في المنتهَى؛ وبهذا يقولُ كثيرٌ مِن الفلاسفةِ الغربيِّينَ مثلِ سِبِينُوزَا، وكَانْتْ، وهِيجِل، ومنهم مَن يستثني الرُّوحَ؛ فيرى أنَّ كلَّ جسَدٍ محكومٌ بقوانينِ الطبيعة، إلا الروحَ؛ فهي طليقةٌ مِن هذه القوانين، ويَرَى أنَّ عليها أنْ تُجاهِدَ الجسَدَ، وتَلتمِسَ العَوْنَ مِن الله بالمعرِفةِ في جِهَادِها.


(١) "الإنصاف" (ص ٤٣ - ٤٤).

<<  <   >  >>