للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ولم يكنِ السلفُ وأئمَّةُ الصَّدْرِ الأوَّلِ يَشُكُّونَ في خلقِ أفعالِ العباد، حتى قيل بنفيِ القدَرِ؛ فتَبِعَهُ القولُ بخلقِ العبادِ لأفعالِهم، وقد قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ اللهَ خَلَقَ كُلَّ صَانِعٍ وَصَنْعَتَهُ) (١)، وقال حُذَيْفةُ: "إِنَّ الله خَلَقَ صَانِعَ الْخَزَمِ وَصَنْعَتَهُ" (٢).

وقد نشَأَ القولُ بنفيِ القدَرِ في المشرِقِ، ولم يكن معروفًا في المغرِبِ، حتى انتقَلَتْ أقوالُ المعتزِلةِ إلى المغرِبِ، وكان الأئمَّةُ يُنكِرُونَهُ على مَن أظهَرَهُ فيهم، وقد كان محمَّدُ بن سُحْنُونٍ يقولُ في رَدِّ قولِ بعضِ أهلِ الاعتزالِ: "الإقرارُ غيرُ مخلوقٍ، وما سوى ذلك مِن الأعمالِ مخلوقة" (٣).

وجعَلَ الله للمكلَّفِينَ مشيئةً يختارونَ بها الخيرَ والشرَّ، ثُمَّ يُحاسِبُهم على ما اختارُوه، فإذا ارتفَعَ الاختيارُ منهم، ارتفَعَ التكليفُ عليهم؛ كالفَرْقِ بين القائِمِ والنائِم، والعاقِلِ والمجنون، والعامِدِ والمخطِئ، والذاكِرِ والناسي، والعالِمِ والجاهِل؛ فهؤلاءِ قد يتساوَى تصرُّفهم في الظاهِرِ بالذنبِ بفعلِ المحظور، وتركِ المأمور؛ فيُحاسَبُ الأوَّلُ، ولا يُحاسَبُ الثاني؛ لأنَّ الاختيارَ في الأوَّلِ وُجِدَ، وفي الثاني فُقِدَ؛ فتَبِعَهُ الحسابُ والعقابُ، وجودًا وعدَمًا.

* أمرُ اللهِ ونهيُهُ وقدَرُهُ، وتوهُّمُ بعضِ النفوسِ الظُّلْمَ:

وقد توهَّمَتِ القَدَريَّةُ -مِن المعتزِلةِ وغيرِهم-: أنَّ القولَ بإثباتِ القدَرِ يَلزَمُ منه القولُ بظلمِ الله لعبادِهِ؛ فيكونُ ذلك حُجَّةً للعبادِ على


(١) "خلق أفعال العباد" (١٢٤)، و"السُّنَّة" لابن أبي عاصم (٣٥٧ و ٣٥٨) من حديث حذيفة؛ مرفوعًا.
(٢) "خلق أفعال العباد" (١٢٥).
(٣) "رياض النفوس" (١/ ٤٥٤).

<<  <   >  >>