للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ربِّهم؛ فيريدون تنزيهَ اللهِ عن فعلِ القبيحِ مِنَ الظلمِ والتعسُّف؛ فنفَوُا القدَرَ بشيءٍ متوهَّم دخَلُوا فيه؛ فشبَّهوا قدَرَ الله بإكراهِ المخلوقِ للمخلوق.

والتشبيهُ المتوهَّمُ: أصلُ ضلالِ الفِرَقِ في الله، وفي أسمائِهِ وصفاتِه؛ قال الله مثبِتًا لِقَدَرِهِ: {كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: ٤٩]، وقال مثبِتًا لحُجَّتِهِ التامَّةِ على الخلقِ: {فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} [الأنعام: ١٤٩]، وقال نافيًا الظلمَ عن نفسِهِ: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت: ٤٦].

ولا يَلزَمُ مِن إثباتِ ما في هذه الآياتِ القولُ بالتناقُض، وقد كان توهُّمُ الظلمِ يقَعُ في بعضِ النفوسِ حتى في الصدرِ الأوَّلِ؛ وذلك لضعفِ العقلِ وقصورِهِ عن فهمِ دقائقِ القدَرِ وسِرِّه:

ففي "صحيح مسلم"، عن أبي الأسوَدِ الدِّيَلِيِّ؛ قال: "قال لي عِمْرانُ بن الحُصَيْنِ: أَرَأَيْتَ ما يَعمَلُ الناسُ اليَوْمَ، ويَكدَحُونَ فيه؛ أَشَيْءٌ قُضِيَ عليهم، ومَضَى عليهم مِن قَدَرٍ مَّا سبَقَ، أو فيما يَستقبِلُونَ به مما أَتَاهُمْ به نبيُّهم، وثبَتَتِ الحُجَّةُ عليهم؟

فقلتُ: بل شيءٌ قُضِيَ عليهم، ومَضَى عليهم.

قال: فقال: أفلا يكونُ ظُلْمًا؟

قال: ففَزِعْتُ فَزَعًا شديدًا، وقلتُ: كلُّ شيءٍ خَلْقُ الله، ومِلْكُ يَدِهِ؛ فـ {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: ٢٣].

فقال لي: يَرْحَمُكَ اللهُ؛ إنِّي لم أُرِدْ بما سأَلْتُكَ إلَّا لِأَحْزِرَ عَقْلَكَ" (١).

وكان الأئمَّةُ مِن السلَفِ -ومَن تَبِعَهم مِن أهلِ الحديثِ والفقهِ والعربيَّةِ- يُدرِكُونَ أنْ لا تناقُضَ بين الإيمانِ بالقدَر، وبين إيجابِ العمَلِ


(١) مسلم (٢٦٥٠).

<<  <   >  >>