للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وما سلَكَ أحدٌ طريقًا غيرَ الوحيِ لِيَصِلَ به إلى اللهِ، إلا كَثُرَ تحوُّلُهُ وتنقُّلُهُ مِن قولٍ إلى قول، ومِن مذهبٍ إلى مذهب، ومِن رأيٍ إلى رأي؛ لأنه يَبدَأُ يريدُ شيئًا فيستأنِسُ في البداية، ثم يَستوحِشُ بالنهاية، فيتحوَّلُ؛ كسالكِ طريقِ البَرِّيَّةِ بلا دليلٍ: يَستوحِشُ كلَّما طال سَيْرُهُ، حتى يتخبَّطَ يَمْنةً ويَسْرةً مِن الحَيْرة، عكسَ مَن كان على بيِّنةٍ مِن ربِّه في أوَّلِ طريقِهِ وأوسَطِهِ ومنتهاهُ؛ قال عمرُ بنُ عبدِ العزيزِ: "مَنْ جعَلَ دِينَهُ غَرَضًا لِلْخُصُومَاتِ، أكثَرَ التنقُّلَ" (١).

* هَجْرُ الجِدَالِ والمِرَاءِ وأهلِهِ:

وهذا النوعُ من الجدالِ والمراءِ في كلامِ اللهِ وسُنَّةِ نبيِّه: مِن الخوضِ المحرَّم، وقد نَهَى اللهُ عنه في كتابِهِ: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: ٦٨].

وإنما نُهِيَ عن المخالَطةِ للباطِلِ؛ لأنَّ القلوبَ تتشرَّبُ ما تَسمَعُ، فتَستنكِرُ أوَّلَ مرَّةٍ، ثُمَّ ينقُصُ استنكارُها حتى تَألَفَهُ، فأمَرَ اللهُ بالهجرِ حتى لا تَألَفَهُ القلوبُ، فربَّما تأثَّر القلبُ حتى يَعجِزَ صاحبُهُ عن تركِه؛ لضعفِ قلبِهِ، ولقُوَّةِ الشبهةِ عليه؛ فمِن الشبهاتِ مَا يتعلَّقُ بقلبِ صاحبِه، كما يتعلَّقُ به المرَضُ المُعدِي يَكرَهُهُ ولا يَجِدُ خلاصًا منه.

كما قال مالكٌ: وكان يقالُ: "لا تمكِّنْ زائغَ القلبِ مِن أُذُنَيْكَ؛ فإنَّكَ لا تَدرِي ما يَعْلَقُكَ مِن ذلك، ولقد سَمِعَ رجلٌ مِن الأنصارِ مِن أهلِ المدينةِ شيئًا مِن بعضِ أهلِ القدَرِ، فعَلِقَ بقَلْبِه؛ فكان يأتي إخوانَهُ الذين


(١) "الجامع" لابن أبي زيد (ص ١٢٠).

<<  <   >  >>