للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ضَلَّ في طريقِهِ قبلَ فَهْمِه، بخلافِ مَن أخطَأَ في فهمِ نصِّ الوحيِ؛ فضلالُهُ في اجتهادِهِ في الفهمِ، لا في الطريقِ؛ لأنَّ طريقَهُ الوحيُ.

ولو كان كلُّ مُجتهِدٍ معذورًا بغضِّ النظَرِ عن صِحَّةِ الوسائلِ والطرقِ، فلا قيمةَ لإنزالِ الوحيَيْنِ، وحصرِ التشريعِ فيهما، وقد قال ابنُ أبي زيدٍ: "وَمِنْ قَوْلِ أَهْلِ السُّنَّةِ: أَنَّهُ لَا يُعْذَرُ مَنْ أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إِلَى بدْعَةٍ؛ لِأَنَّ الخَوَارِجَ اجْتَهَدُوا فِي التَّأْوِيلِ؛ فَلَمْ يُعْذَرُوا؛ إِذْ خَرَجُوا بَتَأْوِيلِهِمْ عَنِ الصَّحَابَةِ؛ فسَمَّاهُمْ عليه السلام مَارِقِينَ مِنَ الدِّينِ، وَجَعَلَ المُجْتَهِدَ فِي الأَحْكَامِ مَأْجُورًا وَإِنْ أَخْطَأَ" (١).

* التحذيرُ مِن الجِدَالِ والمِرَاءِ في الدِّين:

والجِدَالُ والمِرَاءُ ليس طريقًا موصِّلًا إلى الحقِّ بذاتِه؛ فمتى بانتِ الحُجَّةُ، واتضَحَ الدليلُ، وجَبَ اتباعُهُ والعمَلُ به، وتركُ الجدالِ والمراءِ فيه؛ فإنما هلَكَ أصحابُ العقولِ باستحسانِهِمْ رأيَهُمْ، واستنباطِهِمُ المجرَّدِ عن النصِّ؛ فاستُدرِجُوا إلى الأهواءِ خُطْوةً خُطْوةً، حتى انتهَوْا إلى غيرِ ما قصَدُوا البَدَاءَةَ به.

ولهذا حذَّر العلماءُ مِن المراءِ والجدالِ في الدِّين؛ فاللهُ تعالى لم يُنزِلْ كتابَهُ إلا واضحًا وبيِّنًا لقاصدِهِ مِن أهلِ لُغَته، وليس مغلَقًا مقفَلًا يحتاجُ إلى جدالٍ ومراءٍ لِيُعرَفَ ما فيه؛ فاللهُ وصَفَ كتابَهُ بالبيِّنِ والشفاء، والنُّورِ والهداية، والحُجَّةِ والمُحكَم، والمفصِّلِ والتِّبْيان، وإنْ كان هناك استغلاقٌ في الفهم، فهو في العقولِ والقلوبِ، لا فيه؛ كما قال تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: ٢٤]؛ فجعَلَ القُفْلَ على القلبِ، لا على القرآن.


(١) "الجامع" (ص ١٢١).

<<  <   >  >>