للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

* اعتقادُ السلفِ في الصفاتِ:

ولمَّا كان السلفُ يُمِرُّونَ آياتِ الصفاتِ وأحاديثَها، ولا يزيدون على قراءَتِها، ولمَّا ظهَرَتِ البدعُ الكلاميَّة، وظهَرَ التأويلُ والتشبيهُ والتعطيلُ -: توهَّم بعضُ الناسِ: أنَّ السلفَ يريدونَ نفيَ الحقيقةِ كلِّها، وأنَّ كتابَتَهم للنصوصِ مِن غيرِ كلامٍ؛ يعني الإيمانَ بالحروفِ فقطْ، لا مجرَّدَ أنهم يَنفُونَ كيفيَّةَ الصفةِ وبيانَ كُنْهِها، والسلفُ إنما يُثبِتُونَ الحقيقةَ للصفةِ اللائقةَ بالله، لا اللائقةَ بالعبد، وإثباتُهم للحقيقةِ تلك لا يعني تشبيهًا؛ كما أنَّ نَفْيَهم للتكييفِ لا يعني تعطيلًا؛ فلا هم مشبِّهةٌ، ولا معطِّلةٌ، ولا مكيِّفة؛ لأنَّ التأويلَ للحقيقةِ زيادةٌ على النصِّ، كما أنَّ التشبيهَ زيادةٌ على النصِّ.

والعدلُ: أنْ يَقِفَ الإنسانُ بينهما؛ فلا يَحمِلُهُ خوفُ التشبيهِ على نفيِ الحقيقةِ، ولا يَحمِلُهُ خوفُ التأويلِ على إثبات التشبيه، ويُمسِكُ عمَّا عدا ذلك؛ لأنَّ هذا غايةُ العلمِ، وما سواه جَهْلٌ؛ كما قال سُحْنُونٌ: "مِنَ العلمِ باللهِ: الجهلُ بما لم يُخبِرْ به اللهُ عن نَفْسِه".

وبنحوِهِ قال ابنُ أبي زَمَنِين (١).

ويجبُ إمساكُ الذِّهْنِ عَنِ الاسترسالِ بالتفكُّرِ في كيفية ذاتِ اللهِ وصفاتِهِ؛ لأنَّ العقلَ يشبِّهُ ويمثِّلُ ويكيِّفُ؛ فكلُّ عقلٍ يصوِّرُ الغائبَ عنه على ما يَرَى، حتى تَختلِفَ الصُّوَرُ في العقولِ للذاتِ الواحدةِ؛ لاختلافِ المُشاهَدِ في كلِّ عقل؛ ولهذا نهى السلفُ عن الجِدَالِ في اللهِ وصفاتِهِ وأسمائِه؛ وقد قال ابنُ عبد البَرِّ: "نُهِينَا عن التفكُّرِ في الله، وأُمِرْنا


(١) "أصول السُّنَّة" (ص ٦٠).

<<  <   >  >>