للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

مِن الأصول؛ وذلك تعظيمًا للوحيِ قرآنًا وسُنَّة، وانتهاءً إلى ما بلَّغَهُ اللهُ لنبيِّه، وكلُّ مَن شدَّد في الرأيِ مِن السلفِ، فهو في علمِ الكلامِ أشَدّ، ولا يوجدُ إمامٌ منهم نَهَى عن الرأي، ثم أَذِنَ بالكلام، حتى كان مِن أصحابِ مالكٍ -وخاصَّةً المغارِبةَ- مَن دخَلَ العراق، ولم يَسمَعْ مِن أهلِ الرأي، ولم يأخُذْ عنهم الفقهَ، بل كانت تلك الطَّبَقةُ مِن أهلِ الرأيِ يَنْهَوْنَ عن علمِ الكلامِ؛ كما قال أبو يُوسُفَ: "مَن طلَبَ الدِّينَ بالكلام، تَزَنْدَق" (١)، وهؤلاءِ كانوا مَحَلَّ إنكارِ كثيرٍ مِن السلفِ، مع أنَّهم أدخَلُوا الرأيَ في الفروعِ، لا في الأصول.

* نهيُ مالكٍ عن علمِ الكلامِ، ومرادُه:

وقد كان مالكٌ ينهى عن علمِ الكلامِ كلِّه، ولا يَستثنِي منه شيئًا؛ فهو -وإنْ لم يَظهَرْ في زمنِهِ وفي بلدِهِ علمُ الكلامِ تامًّا، كما هو عليه بعدَهُ بقرون- إلَّا أنَّ مالكًا نهى عن الكلامِ، ولم يَستثْنِ، وربَطَ نهيَهُ عنه بعِلَلٍ هي متحقِّقةٌ في كلِّ علومِ الكلامِ؛ سواءٌ ما كان عليه الجهميَّةُ أو المعتزِلةُ أو المتكلِّمونَ مِن الأشاعِرةِ.

وبهذا فسَّره جماعةٌ مِن أتباعِ مالكٍ المتقدِّمينَ؛ كابنِ خُوَيْزْ مِنْدَادَ، وأبي عُمَرَ بنِ عبد البَرِّ، وقد كان ابنُ خُوَيْزْ ينهى عن قَبُولِ شهادةِ أهلِ الكلامِ كافَّةً، وكان ابنُ عبد البَرِّ ينقُلُ كلامَهُ معتمِدًا عليه؛ فقد نقَلَ عنه قولَهُ في تأويلِ قولِ مالكٍ: "لا تجوزُ شهادةُ أهلِ البِدَعِ وأهلِ الأهواءِ"؛ قال: "أهلُ الأهواءِ عندَ مالكٍ وسائرِ أصحابِنا هم أهلُ الكلام؛ فكلُّ متكلِّمٍ، فهو مِن أهلِ الأهواءِ والبِدَعِ؛ أشعريًّا كان أو غيرَ أشعريٍّ،


(١) "الإبانة" لابن بطة (٦٧١/ كتاب الإيمان).

<<  <   >  >>