للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

يَستنصِحُهُمْ، فإذا نَهَوْهُ، قال: فكيفَ بما عَلِقَ بقلبي، ولو عَلِمْتُ أنَّ اللهَ رَضِيَ أنْ أُلْقِيَ بنفسي مِن فوقِ هذه المَنَارةِ، لَفعَلْتُ" (١).

وقد كان السلفُ يَنْهَوْنَ عن مخالَطةِ أهلِ الأهواءِ ومُجالَسَتِهم، وقلَّما يقيِّدون؛ لأنَّ كثيرًا مِن العقولِ تَغتَرُّ بنفسِها، وتَنخدِعُ بعِلْمِها القاصِر؛ فأكثَرُ النفوسِ تَظُنُّ كمالَ عَقْلِها، وقُوَّتَها على معرِفةِ ما يَنفَعُها ويَضُرُّها، ويَغُرُّها الشيطانُ عند نفسِها، ويُظهِرُ لها مِن المعاني القليلةِ ما تُدْرِكُه، وربَّما أوحَى إليها مِن الاستنباطِ الدقيقِ ما تَنخدِعُ به: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ} [الأنعام: ١٢١].

وربَّما كان القصدُ مِن هذا النوعِ مِن الوحيِ الشيطانيِّ: أنْ تسيرَ النفسُ إلى مَضَايِقِ الجَدَلِ والمراءِ؛ حتى تقَعَ في شِرَاكِ الجَهَالات، وحبالِ مَن هو أعلَمُ منها بالباطلِ؛ فتَغتَرُّ به وتنقادُ له.

وكثيرًا ما يأتي بعضُهم أهلَ الأهواءِ الذين هم أكثَرُ منه علمًا بالجدَلِ والمراءِ؛ لِيَسْمَعَ منهم، أو يَرُدَّ باطِلَهم؛ فيقَعُ في باطِلِهم حتى يَفتِنُوهُ لضعفِهِ لا لقوَّتهم؛ فإنَّ الأضعَفَ يرى الضعيفَ قويًّا.

وقد رأيتُ شابًّا جاهلًا في أوَّلِ طلَبِه يَقصِدُ صاحبَ هوًى يريدُ الانتفاعَ منه، فحذَّرْتُهُ منه، فقال: "إنَّه إناءٌ مُلِئَ عِلْمًا فقلتُ له: صدَقْتَ؛ هو فِنْجَانٌ، وأنتَ نَمْلةٌ؛ فتراهُ كجبَلِ أُحُدٍ، ولو كَبُرْتَ علمًا، رأيتَهُ كما هو، ولكنَّك لِصِغَرِكَ وضَعْفِكَ ترى كِبَرَهُ وقُوَّتَهُ عليك، لا في العلمِ والمعرِفة.

وقد قيل لمالكٍ: "مَن قَوِيَ على كلامِ الزنادقةِ والإباضيَّةِ والقَدَريَّةِ


(١) "الجامع" لابن أبي زيد (ص ١٢٠).

<<  <   >  >>