للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

بأدلَّةِ خصومِها عليها، وفي طوائفِ الضلالِ مِن المجادَلةِ والنَّقْضِ بعضِها لبعضٍ ما لا يُوجَدُ عند غيرِهم، خاصَّةً في الطوائفِ التي تَتقابَلُ في قولٍ باطلٍ: واحدةٍ في أقصاهُ يمينًا، وثانيةٍ في أقصاهُ شمالًا.

وكان أئمَّةُ السُّنَّةِ في المغرِبِ يَرُدُّونَ قولَ القَدَريَّةِ والجَبْريَّة، ويُحاجُّونَ مَن قال به؛ يقولُ عَوْنُ بن يُوسُفَ الخُزَاعيُّ -وهو مِن علماءِ القَيْرَوان، وكان أكبَرَ مِن سُحْنُونٍ، ومِن أصحابِ عبد الله بنِ وَهْبٍ-: "إذا أَرَدتَّ أن تكفِّرَ القَدَريَّ، فقُلْ له: ما أرادَ الله -عَزَّ وَجَلَّ- مِن خَلْقِه؟ فإنْ قال: أراد منهم الطاعةَ، فقد كفَرَ؛ لأنَّ منهم مَن عَصَى؛ وكلُّ إلهٍ لا تَتِمُّ إرادتُهُ، فليس بإله، وإنْ قال: أراد منهم المعصيةَ، فقد كفَرَ؛ لأنَّ منهم مَن أطاعَ؛ وكلُّ إلهٍ لا تَتِمُّ إرادتُهُ، فليس بإله" (١).

* وأمَّا القائلونَ بالكَسْبِ: فجمهورُ الأشاعِرةِ ومتأخِّروهم؛ يُثبِتُونَ لله الخلقَ والمشيئةَ، ولكنَّهم يَجعَلُونَ أفعالَ العبادِ الاختيارَيَّةَ بإرادةِ الله وقُدْرتِهِ وحدَهُ، لا باختيارِ العبدِ ولا قُدْرَتِه، ولا أثَرَ له في ذلك، وإنَّما هو كاسِبٌ لها، وكسبُ العبدِ عندَهم هو مقارَنَتُهُ لقدرتِهِ مِن غيرِ أن يكونَ هناك مِن تأثيرٍ أو مَدخَلٍ في وجودِهِ سوى كونِهِ مَحَلًّا له؛ كما يقولُهُ صاحبُ "المَواقِف" (٢).

وقد تأثَّر الأشاعِرةُ القائلُونَ بالكَسْبِ بالضِّرَاريَّةِ والنَّجَّاريَّةِ قَبْلَهم.

وهذا القولُ يُشابِهُ قولَ الجَبْريَّة، ومِن أشَدِّ ما شنَّع به المعتزِلةُ عليهم؛ فهم يَنفُونَ أيَّ قدرةٍ للعبدِ أو تأثيرٍ في أفعالِه؛ فإنَّ الله قادِرٌ على إيجادِ الحوادِثِ التي يُرِيدُها الإنسانُ بدونِ فِعْلِه، فهو مُوجِدُها وحدَهُ، ولو كان الإنسانُ مشارِكًا مقتَرِنًا في إحداثِها في الظاهِر، فلا أثَرَ له في الحقيقة.


(١) "رياض النفوس" (١/ ٣٨٦).
(٢) "المواقف" (٣/ ٢٠٨ - ٢١٤).

<<  <   >  >>