للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وإنَّما الذي يقدَّمُ مِن العمَلِ ما جمَعَ القُرْبَيْنِ: قربَ الزمانِ، وقربَ المكان؛ قال عبدُ الرحمنِ بن مَهْدِيٍّ: "السُّنَّةُ المتقدِّمةُ مِن سُنَّةِ أهلِ المدينةِ خيرٌ مِن الحديثِ" (١).

وليس هذا تأخيرًا للحديثِ، وإنَّما هو تقديمٌ لِفَهْمِهم على فَهْمِ غيرِهم؛ فإنَّ عمَلَ أهلِ المدينةِ المتقدِّمَ لم يفضَّلْ إلا لأجلِ الحديثِ؛ ففضلُهُ فرعٌ عن فَضْلِه، وإلَّا فمكَّةُ أفضلُ مِن المدينةِ، وليس فضلُها بمقدِّمٍ لها في فضلِ العمَلِ على غيرِها؛ فالمدينةُ مَنزِلُ أكثَرِ الحديثِ والعمَلِ به.

ومَن كان جاهلًا بعمَلِ الصدرِ الأوَّلِ وفِقْهِهم، كَثُرَ خَطَؤُهُ، وجاء بشذوذِ الأقوالِ، ولو كان معه ظاهِرُ الحديثِ؛ قال ابنُ عُيَيْنةَ: "الحديثُ مَضَلَّةٌ إلا للفُقَهاءِ" (٢).

وقد قال ابنُ أبي زَيْدٍ في بيان ذلك: يريدُ: أنَّ غيرَهم قد يَحمِلُ شيئًا على ظاهِرِه، وله تأويلٌ مِن حديثٍ غيرِهِ، أو دليلٍ يخفى عليه، أو متروكٍ وجَبَ تركُهُ؛ غيرَ شيءٍ مما لا يقومُ به إلا مَن استبحَرَ وتفقَّه.

ومِن هذا قولُ ابنِ وهبٍ: "كلُّ صاحبِ حديثٍ ليس له إمامٌ في الفقهِ، فهو ضالُّ، ولولا أنَّ اللهَ أنقَذَنا بمالكٍ والليثِ، لَضَلَلْنَا" (٣).

وربَّما أجمَعَ الصحابةُ والتابِعونَ على تركِ العمَلِ بحديثٍ، وهو صحيحٌ؛ لأنَّهم يَعلَمُونَ سببًا مشروعًا لتركِ العمَلِ وإنْ لم يبيِّنوه؛ فصار مجرَّدُ تَرْكِهم دليلًا مستقلًّا في ذاتِهِ على التركِ، لا أنَّ تَرْكَهم لذاتِه أفضَلُ مِن الحديثِ لذاتِه.


(١) "الجامع" لابن أبي زيد (ص ١١٨)، و"مسند الموطأ" (٥٦).
(٢) "الجامع" لابن أبي زيد (ص ١١٨).
(٣) "الجامع" لابن أبي زيد (ص ١١٩).

<<  <   >  >>