للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

القَدَريَّةِ والجهميَّة، متمسِّكٌ بالسُّنَن" (١).

ومثلَ هذا قالَهُ في الذبِّ عن ابنِ كُلَّابٍ (٢).

وهذا مِن فقهِ ابنِ أبي زَيْدٍ ودرايَتِه؛ أنَّ مَن انبَرَى مِن المخالِفِينَ لصَدِّ عاديةِ الزنادِقةِ ومَن هم أشدُّ منهم مخالَفةً، ليس مِن الفقهِ دفعُهُ بذاتِه؛ لأنه بابٌ لو كُسِرَ، لَفُتِحَ على السُّنَّةِ بعده شرٌّ أعظَمُ لا يقومُ به غيرُه، وبعضُ المتمسِّكينَ بالسُّنَّةِ والأثَرِ يعامِلُ كلَّ مخالِفٍ بالنظَرِ إلى مخالَفَتِه، ولا ينظُرُ إلى ما وراءه مِن شرورٍ مدفوعةٍ به، وكان يَسَعُهُ بيانُ السُّنَّةِ مِن البِدْعة، وعدمُ كسرِ بابِ بِدْعةٍ يدخُلُ على الإسلامِ منه بدعةٌ أكبَرُ منها.

وهذه طريقةُ الأئمَّةِ في التعامُلِ مع المخالِفِينَ؛ يَحفَظُونَ السُّنَّةَ مِن البِدْعة، ومِن حِفْظها: تقديرُ مراتبِ المخالِفِينَ وأحوالِهم؛ ففرقٌ بين مخالِفٍ وجهُهُ إلى بدعةٍ أشدَّ مِن بدعتِهِ يُحارِبُها، وبين مخالِفٍ وجهُهُ إلى سُنَّةٍ يُحارِبُها، ولو كانت مخالَفةُ الثاني أخفَّ، فربَّما شدَّدوا على الثاني، وخفَّفوا في الأوَّل.

وقد كان أبو عُثْمانَ الصابُونيُّ يُثنِي على أبي منصورٍ البَغْداديِّ، ويعظِّمُهُ؛ لمقامِهِ في الردِّ على المعتزِلةِ، مع كونِهِ مِن أهلِ الكلام (٣).

وقد كان ابنُ أبي زيدٍ على هذا النَّهْج، ومعتقَدُهُ يبيِّنُهُ ما كتَبَهُ وقالَهُ، ولا يُؤخَذُ مِن مَضامِينِ الثناءِ والمدحِ للأعلام.

وقد كان ابنُ أبي زيدٍ على طريقةِ مالكٍ وأحمَدَ، وكان معظِّمًا لأحمدَ، وكان يقولُ: "أحمَدُ بنُ محمَّدِ بنِ حَنْبَلٍ به يُقتدَى، وقد أنكَرَ هذا، وما أنكَرَ أبو عبد اللهِ أنكَرْناه" (٤).


(١) "تبيين كذب المفتري" (ص ١٢٣).
(٢) "تبيين كذب المفتري" (ص ٤٠٥).
(٣) "تبيين كذب المفتري" (ص ٢٥٣).
(٤) "تبيين كذب المفتري" (ص ٤٠٨).

<<  <   >  >>