والأُمَمُ والشعوبُ التي تَنشَاُ على الفِطْرة، ولم تتبدَّلْ، فإنها أسرَعُ لقَبُولِ الحقِّ والتسليمِ به؛ كما هو اليومَ في كثيرِ من بُلْدانِ إفريقيَّةَ وبعضِ بلدانِ جنوبِ شرقِ آسيا، وأمَّا التي تبدَّلَتْ فِطْرَتُها، وطال الأمَدُ على انحرافِها، فإنَّ قَبُولها للحقِّ شاق؛ لأنَّ قلوبَهم منحرِفة؛ كالإناءِ المائلِ أو المنكوسِ، فبمقدارِ مَيَلانِهِ يقلُّ نصيبُهُ مِن تقبُّلِ وضعِ الماءِ فيه، وإذا كان منكوسًا، لا يَقبَلُ شيئًا حتى يعدَّلَ على الفطرةِ الصحيحة، ثُمَّ يُصَبُّ الماءُ فيه، والجهدُ في هؤلاءِ شاقّ؛ لأنهم يحتاجون إلى جهادَيْن: جهادِ تعديلِ الفِطْرة، وجهادِ عَرْضِ الشِّرْعة؛ وهذا كالفَرْقِ بين أهلِ مَكَّةَ وأهلِ المدينة في أوَّلِ الإسلام؛ فأهلُ مكَّةَ أشدُّ تبديلًا للفِطْرة، فعانَدُوا وكابَرُوا، ولكنْ مَن آمَنَ منهم، ثبَتَ وكان إيمانُهُ أقوى مِن غيره؛ لأنه جرَّب أقصى الضلالة، فرجَعَ، فليس بعدها شيء؛ ولهذا كان مؤمنو مَكَّةَ المهاجِرُونَ أفضَلَ من مؤمني المدينةِ الأنصار.
ومَن أراد دعوةَ أحَدٍ إلى الحقِّ، فلينظُرْ إلى فِطْرَتِهِ ومقدارِ انحرافِها قبل دَعْوَته، حتى يقوِّمَ الإناءَ قبل الصبِّ فيه، ومَن يدعو أصحابَ فِطَرِ مبدَّلةٍ، أعظَمُ أجرًا ممَّن يدعو أصحابَ الفطرِ الصحيحة، ولو كان أقلَّ أتباعًا؛ فكلُّ أولي العَزْمِ مِن الرسُلِ أُرسِلُوا إلى أُمَمٍ مبدِّلةٍ للفِطْرة.
وإذا نَشَأ الإنسانُ في بيئةِ شرٍّ وعَرَف الحقَّ، فهو أَثبَتُ وخيرٌ ممَّن عَرَف الحقَّ في بيئةِ خير، ومِن هذا قولُ أحمدَ: إذا أَصَبتَ الكوفيَّ صاحبَ سُنَّةٍ، فهو يَفُوقُ الناس (١)؛ وذلك لأنَّه غَلَبتْ على الكوفةِ بِدْعةُ التشيُّعِ والرَّفْض.