للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

في القرنِ الثالثِ للتفويضِ؛ كما أشار إليه الدارِميُّ في "ردِّه على بِشْرٍ المَرِيسِيِّ"، وإنما اشتَهَرَ التفويضُ في قولِ الكُلَّابيَّةِ؛ يريدون التوسُّطَ بين المعطِّلةِ والمشبِّهة؛ فيَسلَمُون مِن الطائفتَيْنِ: بتفويضِ حقائقِ الصفاتِ ومَعانِيها، مع أنَّ المفوِّضةَ في الحقيقة معطِّلةٌ؛ فما سَلِموا بالتفويضِ من التعطيل، وظهَرَ التفويضُ في قولِ أبي منصورٍ الماتُرِيدِيِّ في خُراسَانَ، وأبي الحسَنِ الأَشْعَريِّ في العِرَاقِ في "رسالتِهِ إلى أهلِ الثَّغْر"، وقد كتَبَها قبلَ كتابِهِ: "الإبانة".

واللهُ تعالى أنزَلَ كتابَهُ لِيُتدبَّرَ وهو معلومُ المعنى، ولم يذكُرْ أحدٌ مِن الصحابةِ والتابعينَ وأتباعِهم مِن المفسِّرينَ وغيرِهم: أنَّ آياتِ الصفاتِ مِن المتشابِهِ الذي لا يجوزُ الكلامُ في تفسيرِه وبيانِ مَعَانِيه، بل صحَّ عن ابن عبَّاسٍ: أنه جعَلَها مِن المُحْكَمات؛ وذلك لمَّا سَمِعَ رجلٌ بحديثٍ في الصفاتِ، فانتَفَضَ، فقال ابنُ عبَّاس: "مَا فَرَقُ هَؤُلَاءِ؟ ! يَجِدُونَ عِنْدَ مُحْكَمِه، وَيَهْلِكُونَ عِنْدَ مُتَشَابِهِهِ! " (١)؛ و"يَجِدُونَ"؛ يعني: يَغضَبُونَ (٢).

ومَن فوَّض الصفاتِ، ولم يُثبِتْ لها حقيقتَها، وجعَلَ غايةَ الإيمانِ بآياتِ الصفاتِ الإيمانَ بحروفِها -: فقد خالَفَ المَقصِدَ مِن التنزيل، وجعَلَ عربيَّةَ القرآنِ لا معنَى لها؛ فالإيمانُ بالحروفِ لا يَختلِفُ فيه العَرَبيُّ والأعجميّ.

واللهُ سمَّى كتابَهُ مُبِينًا مفصَّلًا، وأمَرَ بتدبُّرِه، وجعَلَ لعربيَّتِهِ مَيْزةً وخَصِيصة، وهي معرفةُ المعاني وحقائقِها؛ فقال: {قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [فصلت: ٣]، وقال: {قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [يوسف: ٢]،


(١) "جامع معمر" (٢٠٨٩٥)، و "السُّنَّة" لابن أبي عاصم (٤٨٥)، و"ذم الكلام" للهروي (١٩٣).
(٢) "النهاية" لابن الأثير (٥/ ١٥٥).

<<  <   >  >>