فتأتي الأنبياء عليهم السلام بمحارات العقول، لا بمحالاتها، فكل ما يظن أن العقل يحيله فلا خلو من أحد أمرين: إما خطأ في النقل أو خبل في العقل فتكون شبهة خيالية ظن صاحبها أنها أمر عقلي صريح، والحال أنه خيال وهمي غير صحيح، كما قال تعالى:{وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ} الآية [سبأ: ٦].
وأما الذين في قلوبهم زيغ فلا يزدادون إلا رجسًا إلى رجسهم.
ومنها أن اللَّه تعالى جعل الدور ثلاثًا؛ دار الدنيا ودار البرزخ ودار القرار وجعل لكل دار أحكامًا تختص بها، وركب هذا الإنسان من بدن ونفس وجعل أحكام الدنيا على الأبدان والأرواح تبع لها، ولهذا جعلت أحكام الشريعة مرتبة على ما يظهر من حركات الإنسان والجوارح وإن أضمرت النفوس خلافه فالعقوبات الدنيوية تقع على البدن الظاهر وتتألم الروح بالتبعية، وجعلت أحكام البرزخ على الأروح والأبدان تبع لها فكما تبعت الأرواح الأبدان في أحكام الدنيا فتألمت بألمها والتذت براحتها ولذاتها، وكانت الأبدان هي المباشرة لأسباب النعيم والعذاب فكذلك تبعت الأبدان الأرواح في نعيمها وعذابها وكان العذاب والنعيم على الروح ولها بالأصالة والأبدان تابعة للأرواح في ذلك عكس دار الدنيا فإذا كان يوم حشر الأجساد وقيام الناس من قبورهم لدار القرار والمعاد صار الحكم من النعيم والعذاب وغيرهما على الأرواح والأجساد باديًا ظاهرًا أصلًا فما أخبر به الرسول من عذاب القبر ونعيمه من هذ القبيل فإذا ظهر للفهم السليم طابق العقل المستقيم.
فالنار التي في القبر ليست من جنس نار الدنيا فيشاهدها من شاهد نار الدنيا وإنما هي من نار الآخرة فهي وإن كانت أشد من نار الدنيا إلا إن شدتها على من هي له وعليه دون من مسها من أهل الدنيا بل ربما دفن الميتان في قبر واحد فيكون