فإن الجواب في ذلك أن كل واحد منهما لما كانت منصوبة ومخفوضة في حال الإضافة والتمكن في قوله " جئته من قبلك " و " رأيته قبلك " أعطيت في حال البناء حركة لم تكن لها في حال التمكن وهي الضمة.
وعلة ثانية: أن قبل وبعد قد حذف منهما المضاف إليه وتضمنا معنى الإضافة، فحركا بأقوى الحركات ليكون عوضا من الذاهب كما يعوض من المحذوفات في مواضع كثيرة حروف وحركات، ألا ترى أن سيبويه جعل السين في اسطاع عوضا من ذهاب الحركة من الواو في أطوع، فإذا جاز أن يبدل الحرف من الحركة ويجعل عوضا، جاز أن تبدل الحركة من الحرف وتجعل عوضه.
وعلة ثالثة: وهي أن قبل وبعد يشبهان الاسم المنادى المفرد، والشبه بينهما أن المنادى المفرد متى نكر أو أضيف أعرب، كقولك " يا راكبا " و " يا عبد الله " وإذا أفرد بنى إذا كان معرفة وقد كان متمكنا قبل أن يبنى، فكذلك قبل وبعد إذا أضيفا أو نكرا أعربا وإذا أفردا غير نكرتين بنيا فلما أشبها المنادى المفرد بالشبه الذي ذكرناه وكان المنادى مضموما ضما كما ضم.
فإن قال قائل: فما وجه كونهما منكورين في حال ومعروفين في حال إذا كانا مفردين؟ قيل له: أما كونهما معروفين فأن يكون المضاف إليه المحذوف منهما معرفة فيتعرفان به فإذا حذفته لمعرفة المخاطب به فقد فهم
بهما مفردين ما كان يفهمه بهما مضافين فهما على حدهما في التعريف، ومن ذلك قوله عز وجل: لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ (١) أراد من قبل الأشياء ومن بعدها، فحذف الأشياء وفهم المعنى، وإذا كانا منكورين فكأنهما أضيفا إلى منكور وحذف المضاف إليه فبقيا على التنكير. فإن قال قائل فلم لم يبنيا منكورين؟ قيل له لأنهما لم يتضمنا معنى الإضافة، فإذا كان كذلك لم يكونا كبعض الاسم وصارا بمنزلة قولك:" مررت بعبد وغلام "، ونحو ذلك، وإنما كانت العلة التي وجب من أجلها البناء أنهما كبعض الاسم لتضمنهما معنى الإضافة، والذي قلناه في قبل وبعد هو العلة في أوّل وفي وراء وقدام، وهذه الظروف إذ حذفت المضاف إليه حكمهن حكم قبل وبعد كما قال الشاعر: