يحتمل- من طريق علم البيان- أن يكون (في أحسن صورة) حالا من الرائي وفيه احتمال: أن يكون حالا من المرئي.
وإذا حملناه على الوجه الأول: لم يبق فيه إشكال؛ وذلك مثل قول الرجل: (رأيت الأمير في أحسن هيئة)؛ وهو يريد: أني كنت في أحسن هيئة.
ولو رده إلى الرؤيا: فله وجه، ومعناه: أن رؤياي كانت في أحسن صورة؛ تقول: صورة الحال كذا، وصورة المسألة كذا.
ولو تنزه متنزه عن هذين التأويلين، ويقول: أنا أعتقد أن الله سبحانه متنزه عن الصورة التي نعرفها ونتصورها، ثم أكل معناها- في هذا الحديث- إلى علم الله الذي وسع كل شيء، فله التسليم، وباب الاعتراض عليه مسدود.
وفيه: (فيم يختصم الملأ الأعلى).
اختصم القوم، وتخاصموا: بمعنى، و (الملأ): الجماعة، وأكثر ما ورد في التنزيل ورد في جماعة يجتمعون على رأي، ولو ذهب ذاهب من حيث الاعتبار اللغوي، إلى أن (الملأ) هي الجماعة التي تملأ العيون رواء، والقلوب مهابة وبهاء فله وجه.
وأراد بـ (الملأ الأعلى): الملائكة؛ وصفوا بذلك: إما اعتبارا بمكانهم، وإما اعتبارا بمكانتهم [٧٣/ب]، والمراد بـ (الاختصام): التقاول الذي كان بينهم في الكفارات والدرجات؛ شبه تقاولهم في ذلك وما يجري بينهم من السؤال والحوار بما يجري بين المتخاصمين.
وفيه: (فوضع كفه بين كتفي).
السبيل: أن نحمل هذه الألفاظ على معنى التأييد من الله سبحانه لنبيه - صلى الله عليه وسلم -، والتخصيص له بمنزلة الفضل المقتضى لمزيد العلم؛ فإن من شأن المتلطف بمن يحنو عليه: أن يضع كفه بين كتفيه؛ تنبيها له على أنه يريد بذلك: تكريمه وتأييده.
وفيه: (حتى وجدت برد أنامله بين ثديي).
عبر بذلك على وجده من تنزل الرحمة على فؤداه، وانصباب العلوم الوجدانية إلى ساحة صدره، وللعرب- في هذا الأسلوب من الاستعارة والاتساع- مذاهب فسيحة، وطرق مشهورة، لا ينكرها أهل العلم بطرق كلامهم، وقد كان - صلى الله عليه وسلم - يخاطب بهذا القول وأمثاله رجالا ترسخت في العلم أقدامهم، وتأصلت في البلاغة أعراقهم؛ فلم يكونوا ليعدلوا عن سواء السبيل، ويخطئوا الغرض من الخطاب، وانتهت النوبة إلى أناس تأخروا عنهم في المنزلتين؛ فصاروا فرقتين:
فرقة: قابلت الحديث بالرد والإنكار.
وفرقة: صرفوه عن الوجه المستقيم.
ونعوذ بالله أن ننخرط في سلك إحدى الطائفتين.
ثم إنا لا ننكر على من تنزه عن تأويل هذا الحديث وأمثاله، ونمضه على مراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مراعيا