في أوان يدخل منه على النفوس كراهية- فإن الله يمحو به خطاياه؛ لما فيه من مجاهدة النفس، ومخالفة الهوى، ومصارعة الطباع البشرية، وإذا أطعم الطعام؛ ولم يطع الشح الذي جبل عليه، أو بذل السلام؛ تواضعا لمن هو مثله، وتوددا إلى عباد الله المؤمنين، أو قام بالليل؛ إيثارا للمكايدة على الاستراحة في جنب طاعة الله، فإن الله يرفع درجاته بذلك، ويمحو به خطاياه.
فإن سأل سائل عن الاختصام المذكور في الحديث: (هل هو الاختصام المذكور في الآية من قوله تعالى: {ما كان لي من علم الملأ الأعلى إذ يختصمون}، أم كل واحد منهما في قضية أخرى؟).
فالجواب- وبالله التوفيق- أن نقول: يحتمل أنهما في قضية واحدة؛ وقد ذهب إلى ذلك بعض أهل العلم من المفسرين [٧٤/ب] وأصحاب الحديث؛ فذكروا هذا الحديث في تفسير الآية، غير أنهم لم يبينوا وجه التناسب بين الآية والحديث، وهو يسير على من يسره الله، وهو: أن الملائكة لما استقصروا الأوضاع البشرية؛ فلم يهتدوا إلى وجه الحكمة في تكريم آدم وسجودهم له، نبأهم الله تعالى عما أيدوا به من الدرجات والكفارات. على ما ذكرنا قبل فتقاولوا يف فضلا البشر واحتجوا على (من اشتبه عليه .... الحكمة في ... الأرض ... والدعاء بما .... الله لهم من الدرجات والكفارات).
فذكر الله تعالى في كتابه اختصامهم عند خلق آدم، ولم يبين فيه ما اختصموا فيه، ثم نبأ عنه نبيه - صلى الله عليه وسلم -؛ فأخبر عنه في هذا الحديث.
والأظهر: أن نقول: الاختصام المذكور في الآية غير الاختصام المذكور في الحديث؛ وذلك لأن الاختصام المذكور في الآية: هو تقاول الملائكة في أمر السجود، وقد أمر الله تعالى نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يحتج على منكري نوبته بما أوحى الله تعالى إليه من قصة الملائكة وآدم على ما كان؛ ليكون علما لنبوته؛ فإنه لم يكن يعلم ذلك قبل الوحي، ولم يكن يقرأ كتبا؛ بل كان أميا بين قوم أميين، وأما الحديث: فإنه إخبار عن حال كوشف بها في المنام، فعلم ما لم يكن ليعلمه من تلقاء نفسه.
ومما يدل على التغاير بين الآية والحديث: أن في الآية نفي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - العلم باختصام الملائكة وفي الحديث: لم ينف هو عن نفسه علم الاختصام، وإنما نفى عنه علم ما كانت الملائكة يختصمون فيه.
ومما يدل عليه- أيضا- كشف الآية عن اختصام قد مضى، وإخبار النبي - صلى الله عليه وسلم - عن اختصام لم يمض؛ إذ قال له ربه: (فيم يختصم الملأ الأعلى)؛ تنبيها على أن حال الاختصام باقية.
فإن قيل: فلعل التقدير: فيم كان يختصم الملأ الأعلى؟.
قلنا: يصح ذلك على ضرب من الاحتمال، والذهاب إلى ما يقتضيه الظاهر أولى؛ فإن التقدير إنما يحسن عند الضرورة إليه؛ لاختلال المعنى أو الدلالة؛ حال موجب ذلك، ولا ضرورة بنا إلى ذلك في هذا الحديث.
ومما يدل على استقامة الوجه الذي اخترناه: أن سورة (ص) مكي باتفاق المفسرين، والحديث دل على أن تلك الحالة أريها النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة بالمدينة؛ فحدث بها في صباحها بعد أن صلى الصبح.
فصح أن الذي ذهبنا إليه: أظهر الوجهين.