مصلياً في سائر تلك الأوقات كالحاج المحرم فإنه يستوفي أجر الحجاج من حين يخرج إلى أن يرجع إلى بيته وإن كان الحج بعرفة. وذلك مثل قولنا فلان كالأسد فلا يقتضي تشبيهه بالأسد من سائر الوجوه بل يحمل ذلك على الجرأة والشجاعة فكذلك قوله:(فأجره كأجر الحاج) لا يقتضي مشابهة الأجرين من سائر الوجوه بل من الوجه الذي ذكرناه، ثم إنه ضرب المثل بالحاج المحرم؛ لكون التطهر من الصلاة بمثابة الإحرام من الحج، فكما أن الصلاة لا تصح بغير طهر فكذلك الحج لا ينعقد بغير إحرام، ثم إن الحاج إذا كان في حالة الإحرام كان أجره أتم وسعيه أكمل، فكذلك الخارج إلى الصلاة إذا كان متطهرا كان ثوابه أوفر وسعيه أفضل، ومن تدبر هذا القول الذي [٧٦/أ] ذكرناه في بيان هذا الحديث عرف السبيل إلى استنباط معاني ما ورد من الأحاديث في هذا الباب.
وفيه (ومن خرج إلى تسبيح الضحى) يريد به صلاة الضحى وكل صلاة يتطوع بها فهي تسبح وسبحة. وفيه (لا ينصبه إلا إياها) ينصبه بضم الياء أي لا يزعجه ولا يحمله على الخروج إلا ذلك. وأصله من النصب وهو المعاناة والمشقة، يقال أنصبني هذا الأمر وهو أمر منصب. وإن كانت الرواية وردت بفتح الياء فمعناه لا يقيمه إلا ذلك، من قولهم نصبت الشيء نصبا إذا أقمته ورفعته. ولا أحقق ذلك رواية بل أوردته من طريق الاحتمال اللغوي.
وفي قوله (فأجره كأجر المعتمر) إشارة إلى أن فضل ما بين المكتوبة والنافلة والخروج إلى كل واحد منهما كفضل ما بين العمرة والحج والخروج إلى كل واحد منهما، فإن سأل سائل عن قوله - صلى الله عليه وسلم - (ومن خرج إلى تسبيح الضحى) وعن قوله (أيها الناس صلوا في بيوتكم فإن خير صلاة الرجل في بيته إلا المكتوبة)؛ فقال كيف أمر بأداء النوافل في البيوت ثم وعد الثواب على الخروج إليها وكيف السبيل إلى الجمع بين الحديثين على وجه لا يلزم منه إخلاف ولا تضاد؟ فالجواب أن نقول يحتمل أن يكون قوله - صلى الله عليه وسلم - مختصا بصلاة الليل وإن كان ظاهر لفظه يقتضي العموم وذلك لأنه قال هذا القول بعد أن قام بهم ليالي من رمضان فلما رآهم يجتمعون إليه (ويتنحنحون ليخرج إليهم قال (ما زال بكم الذي رأيت من صنيعكم حتى خشيت أن يكتب عليكم ولو كتب عليكم ما قمتم به فصلوا أيها الناس في بيوتكم ... الحديث).
فاكتفى عن ذكر صلاة الليل بما دل عليه صيغة الحال.
ومن الدليل على صحة ما ذهبنا إليه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقعد في مصلاه حتى تطلع الشمس ثم يركع ركعتين وقد قال - صلى الله عليه وسلم - (من قعد في مصلاه حين ينصرف من صلاة الصبح حتى يسبح ركعتي الضحى لا يقول إلا خيرا غفر له خطاياه) وكان - صلى الله عليه وسلم - (إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فركع فيه ركعتين) وكان - صلى الله عليه وسلم - (يأتي مسجد قباء كل سبت ماشيا وراكبا فيصلي فيه ركعتين) ولو كانت صلاته هذه في البيت خيرا لم يكن ليأخذ بالأدنى ويدع الأعلى والأفضل؛ وإذ قد ثبت هذا فنقول: الظاهر أنه أمرهم بالصلاة في بيوتهم لمعان ثلاثة أو لبعض تلك [٧٦/ب] المعاني، أحدها: وهو آكد الوجوه أنه أحب أن يصلوا في بيوتهم عملا بالرخصة التي من الله تعالى بها على هذه الأمة ومخالفة لأهل الكتاب فإنه لم يكن لهم أن يصلوا إلا في كنائسهم وبيعهم.
والثاني: أحب أن يتنفلوا في بيوتهم لتشملها بركة الصلاة فيرتحل عنها الشيطان وينزل فيه الخير والسكينة ولهذا المعنى قال - صلى الله عليه وسلم - (إذا قضى أحدكم الصلاة في مسجده فليجعل لبيته نصيبا من صلاته فإن الله جاعل في بيته من صلاته خيرا). والثالث: أنه رأى النافلة في البيت أفضل حذرا من دواعي الرياء وطلب