قلت: وفي حديث عائشة -رضى الله عنها-: (ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استكمل صيام شهر قط)،والتوفيق بين الحديثين أن نقول: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يدور علي تسع نسوة فيحتمل أن أم سلمة وجدته صائمًا في أيام نوبتها التي كان ينتابها النبي في سائر شعبان، فرأت أنه واصل شعبان برمضان، ووجدته عائشة -رضى الله عنها- مفطًرا في بعض أيامها فأخبرت عما رأت، ويدل على ذلك قولها بعد الذي
[١٥٩/ب] ذكرناه من حديثها: (وما رأيته في شهر أكثر منه صيامًا في شعبان كأن يصوم شعبان كله إلا قليلًا) فإن قيل: أو لم يكن النبي يعدل في القسم بين النساء جهده؟ فكيف تقدر الافطار في نوبة عائشة ول تقدره في نوبة أم سلمة؟ قلت: العبرة في البيتوتة والكينونة نهاره عندها؛ لا باليوم والإفطار؛ ألا ترى النبي كان يصوم من كل شهر ثلاثة أيام، ولم يكن يبالي من أى أيام الشهر يصوم، والثلاثة غير منقسمة على التسع وقد كان النبي في فسحة من هذا، فجعل الإفطار في نوبتها؛ لأنها كانت مفطرة لحبه لها.
فإن قيل: يحتمل أنه كان يراعي ذلك بحسب النوبة في أشهر؛ قلنا: ويحتمل أن قليل الذى أفطر من شعبان كان في نوبة عائشة بإزراء صومٍ قد كان صامه عندها في غيى شعبان، ولا يلزم أن تقدر ما قدرنا في حديث أم سلمة على التعاقب والتوالي في سائر السنين، بل في بعضها فإنها إذا رأته على ذلك عامًا أو عامين، صح لها أن تخبر عما أخبرت.
وأرى أحد المعاني التى كانت تستدعى النبي أن يواصل شعبان برمضان، أو يصوم أكثره: اشتغال أزواجه بقضاء ما فآتهن من رمضان؛ ويدل على ذلك حديث عائشة -رضي الله عنها:(كان يكون على الصوم من رمضان، فلا استطيع ان أقضي إلا في شعبان)، قال الراوي: تعنى الشغل بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فإن قيل: كيف التوفيق بين الحديث الذي ذكرتم عن أم سلمة، وبين حديث أبى هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (إذا انتصف شعبان، فلا تصوموا)؛ فإنًّا إذا قدًّرنا أنه كان يصوم من شعبان أو يصوم اكثره، أفضى بنا إلى ردِّ حديث أبى هريرة؛ فإنه على هذا التقدير: يكون قد صام شيئًا من الزمان الذي نهى عن الصوم فيه؟.
قلنا: نحمل حديث أبى هريرة -رضي الله عنه- على أحد الوجهين: إما أن نقول: إنه آخر الأمور.
أو نقول: إنه نهى عن الصوم في النصف الأخير من شعبان؛ لنفوس الأمة؛ ليتقوًّوْا على صيام شهرهم، ويباشر العمل عن الصوم فيه بنشاط منشرحًا به صدورهم، وكان حاله في ذلك خلاف حال غيره، لما آتاه الله سبحانه من العزم الذي لا فترة فيه، والعمل الذي لا ضعف معه؛ وهذا أولى الوجهين بالاختيار.