العشر يتجدَّدُ له حالٌ أخرى يقوى فيها تمييزُه ومعرفتُه، ولذلك ذهب كثيرٌ من الفقهاء إلى وجوب الإيمانِ عليه في هذا الحال، وأنه يُعَاقَب على تَرْكِه، وهذا اختيارُ أبي الخطَّاب وغيره، وهو قول قويٌّ جدًّا، وإن رفع عنه قلم التكليف بالفروع، فإنَّه قد أُعْطِي آلةَ معرفةِ الصانع والإقرار بتوحيده وصدق رسله، وتمكَّنَ مِن نظر مثله واستدلاله، كما هو متمكِّن من فهم العلوم والصنائع، ومصالح دنياه، فلا عذر له في الكفر بالله ورسوله، مع أنَّ أدلة الإيمان بالله ورسوله أظْهَرُ من كلِّ علمٍ وصناعةٍ يتعلَّمُها.
وقد قال تعالى:{وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ}[الأنعام/ ١٩]. أي: ومن بلَغَهُ القُرآنُ. فكلُّ من بلغه القرآنُ وتمكَّن من فهمه، فهو منذَرٌ به.
والأحاديثُ التي رُوِيَتْ في امتحان الأطفال والمعتوهين والهالك في الفترة، إنَّما تدلُّ على امتحانِ مَنْ لم يَعقل الإسلامَ، فهؤلاء يُدْلُونَ بِحُجَّتِهم أنَّهم لم تبلُغْهم الدعوةُ ولم يَعقِلوا الإسلام، ومَنْ فَهِمَ دقائق الصناعات والعلوم لا يمكنه أن يُدْلِيَ على الله بهذه الحجة.
وعدمُ ترتيبِ الأحكامِ عليهم في الدنيا قبل البلوغ، لا يدلُّ على عدم ترتيبها عليهم في الآخرة.
وهذا القولُ هو المَحْكِيُّ عن أبي حنيفةَ وأصحابِه، وهو في غايةِ القوَّةِ (١).
(١) وانظر بحثًا موسعًا في طريق الهجرتين للمصنف: ٢/ ٨٤٢ ـ ٨٧٧، وأحكام أهل الذمة: ٢/ ٦٠٩ وما بعدها، والجواب الصحيح لابن تيمية: ١/ ٣١٠ وما بعدها، ومختصر الفتاوى المصرية للبعلي ص ٦٤٢ ـ ٦٤٣.