[ذكر بعض الحكماء]
الملقي: إن المتتبع للتاريخ يجد أسماء كبيرة جداً فيما يتعلق بالحكمة، ووصفت بهذه الحكمة، والنماذج كثيرة، ولعل الوقت يسمح بعرض أهمها.
الشيخ: نبدأ بلقمان عليه السلام، قال الله عز وجل: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ} [لقمان:١٢]، وقد اختلف في نبوته، والأشهر أنه عبد صالح وليس من الأنبياء على الأظهر والأصح، والعلم عند الله.
ولقمان ذكر لله جل علا نتفاً من وصاياه؛ حتى يبين لنا كيف حكم على لقمان بأنه حكيم، فترتيب الأولويات من دلائل الحكمة، وكيف يوصي الإنسان ابنه من دلائل الحكمة.
فالله جل وعلا يقول: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:١٣]، فبدأ بأعظم الوصايا وهي النهي عن الشرك، فلا يوجد مفسدة أعظم من الشرك، فنهى لقمان ابنه عن أعظم المفاسد وحذره منها وهي الشرك بالله، والله جل وعلا لما ذكر الحكمة في كتابه العظيم قرنها بالبعد عن الشرك، وقد قلنا: إن المراغي رحمه لله قال: إن التوحيد رأس الدين ورأس الحكمة.
فالله جل وعلا أيها المبارك! في سورة الإسراء تمهيداً لهجرة نبيه حذرهم من الشرك، فقال في آيتين بينهما بعض الآيات، قال: {لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا} [الإسراء:٢٢].
فالقعود في لغة القرآن وصف للعجز، فالله يقول: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ} [النور:٦٠]، عجز جمع عجوز إن صح الجمع، ويقول: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ} [النساء:٩٥] لماذا قاعدون؟ لأن فيهم عجز عن الجهاد، فالله يقول لنبيه تحذيراً دنيوياً: {لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا} [الإسراء:٢٢]، ثم قال: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء:٢٣]، وأتى بعدة وصايا، ثم قال: {ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ} [الإسراء:٣٩] أي: تلك الآداب التي علمناك إياها.
ثم قال: {وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا} [الإسراء:٣٩]، فالآن ذكر العقاب الأخروي، نذكر في الأول العقاب الدنيوي: (مذموماً مخذولاً) وفي الآخر ذكر العقاب الأخروي: (ملوماً مدحوراً)، وهذه الأربع كلها ناجمة عن الشرك بالله الذي جعله لقمان في مقدمة وصاياه يوم قال لابنه: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:١٣].
ثم تدرج لقمان في وصاياه: فذكر الصلاة، وذكر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذكر كوارث الدنيا فقال: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [لقمان:١٧]، ودعاه إلى التودد للناس والتحبب إليهم وعدم التعالي عليهم: {وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا} [لقمان:١٨]، فبين له كل هذه الطرائق، وتلاحظ عدم الإغراق في الجزئيات، وإنما بدأ بما يتعلق بالله، ثم انتهى إلى الأمور التي هي أقل شأناً وهي الحديث مع الناس وألا يكون فيه رفع صوت.
فترتيب تلك الوصايا يدل على ما أوتيه لقمان عليه السلام من الحكمة.
وقد ذكرنا عدد من الصفات: مذموماً، مخذولا، ملوماً، مدحوراً، وقد ذكرها الله في سورة الإسراء، فالتفريق بين هذه الصفات كالآتي: يقول الله: {لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا} [الإسراء:٢٢] فالمذموم هو من يقال له: ما فعلته قبيح، أي: يخبر بعد فعله أن ما فعلته قبيح، والمخذول هو الضعيف الذي لا ناصر له، وإذا تخلى الله عن أحد فهو مخذول, وأما الملوم: فهو الذي يقال له: لم فعلت كذا؟ وأما المدحور: فهو المطرود المبعد.