[الفوائد المستفادة من الحديث السابق]
الشيخ: الحديث فيه وقفات كثيرة، وفيه أشياء تحتاج إلى بيان معانيها، فنبين للمشاهد الكريم المعنى الإجمالي لهذا الحديث فنقول: إن علياً رضي الله تعالى عنه وحمزة كليهما شهد بدراً، وكليهما من آل البيت، وعلي رضي الله عنه خطب فاطمة وأراد أن يعقد عليها وأن يدخل عليها بعد بدر، وكان في بدر قد أصاب هو نفسه من المغنم شارفاً، والشارف هي الناقة المسنة، والنبي صلى الله عليه وسلم لكون علي من آل البيت منحه شارفاً أخرى -يعني: أعطاه من الخمس- فأصبح لدى علي شارفان.
فهاتان الشارفان -أي: الناقتان المسنتان والمتقدمتان في العمر- كانتا في ذلك الوقت تعتبران غنيمة كبيرة جداً، خاصة لفتى كـ علي لم يكن تاجراً، فعمد إلى أن يذهب بالشارفين إلى ديار فيها إذخر -وهو النبات المعروف-؛ حتى يأتي به إلى المدينة ويبيعه على الصاغة، والصاغة كانوا آنذاك يحتاجون الإذخر، فاتفق مع يهودي من بني قينقاع أن يذهبا سوياً؛ لأن هذا اليهودي له علم بما يحتاجه الصاغة من الإذخر.
وفي تلك الفترة الناقة هذه تحتاج إلى أقتاب وغرائر وأشياء توضع عليها حتى يذهب في رحلته، فأناخ الناقتين بجوار دار لرجل أنصاري وعقلهما، ثم ذهب يبحث، فلما اكتملت فرحته ووجد ما أراد ويحتاجه من الأقتاب والغرائر والحبال وواعد الرجل اليهودي صاحبه ليذهبا سوياً، وجد الناقتين قد جب من سنامهما، يعني: الذي نحرهما لم ينحرهما ليأكلهما ذكاة شرعية، وإنما جب أسنمتهما من أعلى على عادة العرب في الجاهلية، ثم بقر الخواصر حتى يأخذ الأكباد، وترك باقي اللحم.
فرجل فرح بالشارفين: أحدهما غنمه، والآخر جاءه من النبي صلى الله عليه وسلم، وهما يعتبران ثروة في ذلك الزمان، فيراهما لا ينتفع منهما بشيء، يقول: فدمعت عيناي، وسأل قبل ذلك وقال: من فعل هذا؟ قالوا: حمزة، وهو في شرب، والشرب مجموعة القوم إذا جلسوا على شراب، قال الأعشى: فقلت للشرب في درني وقد ثملوا شيموا وكيف يشيم الشارب الثمل قلت للشرب يعني: مجموعة أصحاب من الذين يشربون معاً.
فذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر، فالنبي عليه الصلاة والسلام أخذ رداءه وذهب ومعه علي وزيد، فاستأذن -وهو سيد الخلق- قبل أن يدخل، فدخل فعلم من مجمل القضية أن حمزة رضي الله عنه كان قد شرب، فإحدى القين التي تغني ذهبت إلى أبيات شعر قالها عبد الله بن أبي السائب كما حررها المرزباني في معدن الشعراء: ألا يا حمز للشرف النواء وهن معقلات بالفناء والنواء بمعنى السمينة، وقلنا: إن الشارف هي المسنة، وفرق بين المسنة والسمينة، لكنها مسنة وسمينة في وقت واحد، فلما أثير حمزة بقر الخواصر وفعل فيهن ما فعل، فالنبي صلى الله عليه وسلم أخذ يلوم حمزة، فـ حمزة رضي الله عنه وأرضاه كان قد بلغ به السكر مبلغه، فنظر في قدمي النبي صلى الله عليه وسلم في الأول، ثم صعد النظر إلى الركبتين، ثم صعد بنظره كأنه يريد أن يتعرف لكن السكر غلبه، حتى وصل إلى وجه النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال حمزة يخاطب النبي وعلياً وزيداً: وهل أنتم إلا عبيد لأبي! ففهم النبي صلى الله عليه وسلم أنه ثمل فرجع القهقرى، ومن هذا نأخذ أن الخمر كانت تضيع عقول أكمل الرجال، فـ حمزة رضي الله عنه من أكمل سادة أهل البيت، وقد شهد بدراً وأحداً، لكنها في ذلك الزمن كانت مباحة فلا تثريب شرعي عليه؛ لأن الله جل وعلا لم يكن بعد قد أنزل تحريمها، فلا يأتي إنسان ويقول: هذا من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم ثم يسكر، فيقال: إن ذلك قبل أن تكون حراماً، وإلا فـ حمزة سيد الناس، قال عليه الصلاة والسلام: (سيد الشهداء حمزة).
وهو أخو النبي صلى الله عليه وسلم من الرضاعة، والنبي عليه الصلاة والسلام أصابه كمد وحزن شديد على موت حمزة رضي الله عنه وأرضاه، وقد جاء في بعض الروايات أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى عليه، وإن كان المشهور أنه لم يصل عليه، لكن ورد أنه صلى عليه سبعين صلاة، فمقام حمزة مقام رفيع.
وعلي رضي الله تعالى عنه -كما في هذا الأثر- يدل على أنه يعرف شيئاً اسمه المعايشة، فقد يكون الإنسان على غير ملتك وعلى غير دينك لكنك ابتليت به كجار أو كصاحب أو كمعرفة أو زملاء في العمل، فلا يعني هذا ظلمه واضطهاده، ولا عدم الاستفادة منه، فـ علي رضي الله عنه في ذلك الزمن في الجيل الأمثل والرعيل الأول يختار رجلاً يهودياً من قبيلة قينقاع ليذهب معه، ويتفقان، ومن هنا قال الله جل وعلا: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} [آل عمران:٧٥]، فالناس يختلفون، فإذا أمنت الرجل فمن الممكن أن تتعايش معه، وهذا لا يتنافى مع عقيدة الولاء والبراء.
وهذا التعايش يكون في حدود محددة جاء الشرع بضوابطها، فلا يصح غلق الباب تماماً ولا يقبل؛ لأنه لابد للناس أن يتعايشوا.