[الحكمة من تقديم الجن على الإنس في بعض الآيات والعكس في بعضها]
المقدم: إدراك هذه الحكم التي ذكرتها قد لا تتسنى لكل أحد وإنما يختص بها العلماء، ولعلنا نؤخر السؤال عن هذا المحور لنبدأ ببعض الأمثلة الواردة في كتاب الله عز وجل، وإن كانت كثيرة جداً لكن نكتفي ببعضها.
فأبدأ بمسألة الإنس والجن فأقول: إنها كثيراً ما تقترن في القرآن الكريم، والمتتبع لهذه الآيات يجد أن الباري عز وجل أحياناً يقدم الجن، مثل قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:٥٦] وفي آيات أخرى يقدم الإنس، ولا شك أن هذا التقديم والتأخير لم يكن عبثاً من الله عز وجل وإنما هو لحكمة معينة، لعلنا نستعرض هذه المواضع ونبين سبب التقديم والتأخير في كل آية؟ الشيخ: جعل الله جل وعلا الجن والإنس أمتين: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ} [الرحمن:٣١] هاتان الأمتان ذكرتا في القرآن كثيراً، فقدمت إحداهما أحياناً والأخرى في الخطاب أحياناً، فلماذا قدم الجن حيناً وأخر الإنس، ولماذا قدم الإنس وأخر الجن؟ هذا ما سنعرض له.
بداية نقول: إن الله خلق الجن قبل الإنس، قال الله: {وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ} [الحجر:٢٧].
وعندما قال الله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:٥٦] فتقديم الجن هنا ظاهر، لأن الله جل وعلا خلقهم قبل أن يخلق الإنس، فخاطبهم باعتبار ترتيب إيجادهم وخلقهم.
وقال الله جل وعلا في سورة الرحمن: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الرحمن:٣٣] وقال في سورة النمل: {وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ وَالطَّيْرِ} [النمل:١٧].
والمتتبع للقرآن والسنة يفقه أن الجن أكثر قوة من الإنس: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [الجن:٦].
حتى ما تكتنفه الضمائر: أن الإنس يرون أن الجن أقوى منهم، فلذلك وجد في الإنس من يلجأ إلى الجن ولا يوجد العكس، فهنا قدم الله جل وعلا الجن؛ لأن القضية قضية مخاطبة بالقوة، فلما أراد الله أن يخاطب في قضية النفوذ من أقطار السماوات والأرض خاطب الجن ابتداءً؛ لأنهم أقوى فقال: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ} [الرحمن:٣٣].
ولما أراد الله أن يتكلم عن جند سليمان فهو يتكلم عن جيش، والجيش مداره الأول على القوة فقدم الجن وقال: {وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ} [النمل:١٧].
لكن الله لما تكلم عن البيان الذي تحدى به العرب الفصحاء وهم من الإنس، قال الله جل وعلا في الإسراء: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء:٨٨] فقدم الله الإنس هنا؛ لأن الخطاب أحوج ما يكون إليهم؛ لأنهم مخاطبون به أصلاً فالإنس أكثر فصاحةً وبياناً فيما يظهر لنا من الجن، والمخاطب الأول في القرآن بالتحدي في هذه الآيات هم الإنس، فإن سورة الإسراء مكية وأهل مكة هم الذين كان لهم مجال واسع في الفصاحة والبلاغة كما هو معلوم.
فنلاحظ أنه لم يقدم أحد، ولم يؤخر أحد إلا لحكمة ظاهرة بينة.
أما آية في الإنعام: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} [الأنعام:١٣٠] فهذه لم أجد فيها تعليلاً يروي الظمأ، وما دمت لم أجد فيها شيئاً يروي الظمأ فإني أتوقف عن الحديث فيها حتى يكتب الله جل وعلا أن نقف على كلام أحد قبلنا من العلماء الأفاضل، أو أن يفتح الله علينا بما شاء.