[مصادر الخلل في فهم مقاصد القرآن]
فهذه أمور حفظها القرآن وجاء بها.
جاء الخلل في الناس على أمرين: الأمر الأول: خلل في قضية المنهج في باب الأسماء والصفات، ولابد أن يعرف أن هناك أسساً ثلاثة قام عليها منهج السلف الصالح في فهم نصوص الأسماء والصفات، وهذه أجملها الأمين الشنقيطي رحمة الله تعالى عليه في أضواء البيان فقال: الأساس الأول: أن يعلم أنه يجب أن تنزه صفات الله جل وعلا على أن تشابه شيئاً من صفات المخلوقين، ودليل هذا من القرآن: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:١١]، وقول الله جل وعلا: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:٤].
الأساس الثاني الذي قام عليه منهج السلف في فهم الأسماء والصفات: أن نؤمن بما وصف الله به نفسه بأنه لا أحد أعلم بالله من الله، قال الله جل وعلا: {أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} [البقرة:١٤٠].
ويندرج في الثاني: الإيمان بما وصف به النبي صلى الله عليه وسلم ربه جل وعلا، بأنه لا أحد من الخلق أعلم بصفات الله وأسمائه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودليله من القرآن: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:٣ - ٤].
الأساس الثالث: قطع الطمع عن إدراك الكيفية، فلا يبقى في النفس أي طمع في أن يصل إلى كيفية صفة الله.
هذا محال، وقطع الطمع مبني على قول الله جل وعلا في حق ذاته العلية: {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه:١١٠]، فالإنسان إذا قطع الطمع عن إدراك الكيفية وآمن بما وصف الله به نفسه وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، ونزه صفات ربه جل وعلا أن تشابه صفة أحد من الخلق، إذا تحققت هذه الثلاث التي دل عليها القرآن العظيم عرف كيف ينجو في باب الأسماء والصفات.
الأمر الثاني الذي جاء منه الخلل: النظرة السطحية للقرآن: فالنظرة السطحية ينجم عنها أن الإنسان يأتي للألفاظ وحرفيتها ويعتقد أنها هي المراد والمقصد، وهو لا يفقه مقصد القرآن، لأنه لا يملك آلة يراد بها فهم القرآن.
هذان المنزعان للخلل المنزع الأول وقع فيه فرق مثل المعتزلة وغيرها، وهو أنهم لم يأخذوا منهج السلف الصالح في الأسماء والصفات.
وأما عدم فهم مقاصد القرآن فقد وقع فيه الخوارج، فالخوارج يأخذون ظاهر القرآن ويقفون عنده، ولا يدركون ما وراءه، ويستدلون بما هو بمعزل تام عن القضية، فالخوارج الأولون كفروا علياً لأنه قبل التحكيم، وأين فهم الخوارج من فهم علي؟ ومع ذلك احتجوا عليه بآية لا علاقة لها بالقضية، وهي قول الله تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [يوسف:٤٠].
فقالوا: أنت حكمت الرجال في دين الله، وفي إمارة المؤمنين، فتحكيمك الرجال في دين الله مناف لقول الله جل وعلا: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [يوسف:٤٠]، فقال لهم ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: إن الله جل وعلا قال في الأرنب: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة:٩٥]، فقال: إذا حكم الله جل وعلا الرجال في الصيد، فكيف بأمارة المؤمنين؟! إنه أوجب وأفضل، لكنهم وقفوا عند الحرفية.
والخوارج المعاصرون ليس منزعهم واحداً، فبعضهم دفعه الحقد، وبعضهم دفعه الحسد، وبعضهم دفعه التغرير، وبعضهم دفعه الهوى، لكن بعضهم أفعاله الإجرامية التي تحصل والتي يخططون لها إنما تنجم عن الفهم القاصر في كلام الله تبارك وتعالى، وإتيانهم بنصوص يريدون تطبيقها وهي بعيدة جداً عن مرادها، لكنهم لقلة العلم والبصيرة مع الحقد أو الحسد أو صغر السن وقلة التجربة، أو التغرير أو استخدام من يستخدمهم لأغراضهم؛ نجم عنه ذلك الأمر.
أما اجتزاء جزء من الآية وإخراجها عن السياق العام، فهو مصنف ضمن عدم فهم مقاصد القرآن، وليس الطبيب الحاذق من يهدم مصراً كاملاً ليبني قصراً، هذا ليس من دين الله في شيء، ودفع أعظم الشرين وتقديم خير الخيرين من أعظم مقاصد الشرع.
قد يقال: هذه الأربعة شروط هل يمكن لأي إنسان لم يؤت نصيباً من العلم والفقه أن يتحصل عليها، أم أنها خاصة بالعلماء والراسخين في العلم؟ فنقول: إنها إذا وجدت يوصف صاحبها بأنه راسخ، فمن أدرك لغة العرب وتفرغ للعلم، وأدمن النظر في القرآن، وعرف مقاصده، وقرأ ما دونه الأكابر على منهج السلف ونظر فيما سطره الصالحون الأولون أصبح عالماً حقاً.
وقبل ذلك لابد -أنا أتكلم عن المفاتيح الإجمالية العامة- من أشياء شخصية، كأن يكون الإنسان ذكياً فطناً ذا بداهة، جعل الله جل وعلا فيه أصل القدرة، ثم أخذ ينمي نفسه وقدراته بطلب العلم.
يعني: هناك أصول حررها ابن عبد البر عندما تكلم في هذه المسألة، فهناك أصول عظيمة للدين يقرؤها الإنسان ويطلع عليها، ثم ينظر في كل فن ما دونه أهله، ما قاله كباره، ما سطره أئمته، فيستأنس بتلك الأفهام في فهم كلام الله جل وعلا.