للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[الغدر خلق ذميم]

وضد الوفاء هو الغدر، فهناك نفوس شريفة عفيفة أبية تحب العطاء وتقابله بما هو أحسن، وهناك نفوس طبع عليها الغدر، ولهذا فمن طبع على الغدر وكانت سريرته خبيثة يصعب تغييره.

ومما يستطرف في هذا الجانب ما تحكيه العرب على ألسنة بعضها: أن رجلاً وجد جرو ذئب صغير جداً ليس له إلا يوم أو يومان، فأخذه وألحقه بشياهه بمعزه بأنعامه، ثم إن هذا الذئب رضع من الشياه ونشأ بين الضأن ولم يبصر ذئاباً وهذا الرجل يتعاهده بالطعام كما يتعاهد شياهه.

فلما كبر هذا الذئب بقر الشاة وأخذ يفني في الغنم فقال ذلك الرجل أبياتاً يصور هذه الحالة وكان آخرها: فمن أنبأك أن أباك ذئب هذا التساؤل كان ينبغي ألا يطرح، اللهم إلا إن كان من باب البلاغة الشعرية.

والمقصود أن الذئب طبعه الغدر فلا يستغرب منه، فعلى هذا يقال: إن من كانت هذه سريرته لا يثمر معه معروف ولا يكون متحلياً بالوفاء.

أما الضد للوفاء فالعرب تزعم أن الإنسان يفر قدر الإمكان عمن سجيته الغدر واللؤم، وكلنا يسمع بصدر البيت الشهير: وعند جهينة الخبر اليقين.

يقولون: إن رجلاً يقال له: الأخنس من جهينة خرج ووجد رجلاً يقال له: الحصين كلاهما فار من قبيلته، وكان يعرف عند العرب قديماً من يسمى بفئة الصعاليك، هذه الفئة تخرج للفتك والانتقام للنفس وجمع المال بأي طريقة كانت.

فتلاقيا وكلاهما فاتك غادر، فأخذ كل منهما يتوجس خيفة من أخيه، ثم اتفقا على أن يكون فتكهما سوياً، فمرا على رجل من لخم كان عائداً من عند أحد الملوك يملك غنيمة، فلما سلما عليه رحب بهما وأكرمهما.

فلما أكرمهما ذهب الأخنس لبعض شأنه، فلما عاد وجد صاحبه الحصين قد قتل اللخمي وأخذ ماله، فتعجب وقال: رجل أكرمنا -وكان الأخنس فيه شيء من الوفاء- وأطعمنا وسقانا وتصنع به هذا! قال: اسكت، فإنما لهذا ومثله خرجنا فأخذا يتناولان الطعام سوياً وكل منهما يحذر صاحبه؛ لأن السريرة طبعت على الغدر.

فبينما هما يأكلان أراد هذا الحصين أن يغدر بصاحبه؛ لكن الأخنس كأنه فطن لها فقال له الحصين في جملة حديثهما يريد أن يلهيه: هل أنت زاجر؟ وكلمة (زاجر) كانت العرب إذا رأت ذا ذنب مقطوع أو طائر يطير يمنة أو يسرة يتفاءلون أو يتشاءمون به، فقال الأخنس: وما ذاك؟ قال: هذا العقاب الكاسر قال: وأين هو؟ فرفع الحصين رقبته يريد أن يشير إلى علو العقاب فأخرج الأخنس خنجره ووضعه في نحر صاحبه فمات، فأخذ الغنائم كلها وقدم بهم على ديار جهينة، وفي الطريق مر على بطنين من قيس يقال لهما: مراح وأنمار وقابل امرأة تسأل عن الحصين فقال لها: وما قرابتك منه؟ فقالت: أنا أخته صخرة.

قال: لقد قتلته؛ لكنها احتقرته وقالت: ما مثلك يقتل مثله، فتركها ومضى إلى دياره، ثم وزع الغنائم على قومه، ثم وقف يقول: كصخرة إذ تسائل في مراح وفي جرم وعلمهما ظنون تسائل عن حصين كل ركب وعند جهينة الخبر اليقين والمقصود من هذا أن الغدر لا يكون من طبع الأوفياء، وقد قرر أبو تمام رحمه الله هذا إذ قال: إذا جاريت في خلق دنيء فأنت ومن تجاريه سواء رأيت الحر يجتنب المخازي ويحميه عن الغدر الوفاء فجعل الغدر ضداً للوفاء وجعل الوفاء ضد للغدر.

<<  <  ج: ص:  >  >>