[معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (وأول ما ينشق عنه القبر)]
أما قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (وأول من ينشق عنه القبر) فسنقف معه لنبين وجه الأفضلية فيه، وحكم الأبنية التي على القبور في بعض البلدان؛ لذكر القبر في هذه العبارة، ولخطر هذه القضية.
فنقول: بعث الناس من القبور أصلاً هو لذاته شيء عظيم، قال تعالى: {أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:٤ - ٦]، وقد قال الله: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} [يس:٥١ - ٥٢].
وقال سعيد بن جبير رحمة الله عليه معلقاً: حتى أهل الكفر إذا بعثوا يقولون: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك ولك الحمد.
فيسبحون الله ويحمدونه في وقت لا ينفعهم ذلك، فهذا شأن عظيم، فيكون خصيصة ومنقبة لمن يكون أول من ينشق عنه القبر، فالنبي صلى الله عليه وسلم يكرمه الله بأن يكون أول من ينشق عنه القبر يوم القيامة.
وأما قضية البناء على القبور الذي هو مشاهد في كثير من الدول عفا الله عن الجميع، فنقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم -كما رواه مسلم في الصحيح من حديث جابر -: (نهى أن يبنى على القبر وأن يجصص، وأن يقعد عليه)، فهذا نهي منه صلى الله عليه وسلم، والأصل في القبور أنها مساكن الآخرة، والقاسم بن محمد بن أبي بكر -وعائشة خالته- قال لها يوماً يناديها -ليس بالخالة وإنما بالأم؛ لأنها أم المؤمنين-: يا أماه! أريني قبر النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه.
وقبر النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه عندها في الحجرة.
قال: فكشفت عائشة عن ثلاثة قبور ليست بمشرفة ولا لاطئة، ما معنى: لا مشرفة ولا لاطئة؟ معنى: (لا مشرفة) أي: غير مرتفعة، أو غير ظاهرة، ومعنى: (لا لا طئة) أي: غير مستوية بالأرض، فالقبر إما أن يسنم وإما أن يسطح، فكلاهما وارد، لكن يكون الارتفاع قيد شبر أو قريباً منه؛ ليعرف أنه قبر، وغير ذلك نهى الشرع عنه؛ لأن أهل القبور بحاجة إلى أن يدعا لهم.
وأما إذا عظم القبر فقد خرج عن كونه مسكناً من مساكن الآخرة، فالإنسان إذا أتاه يذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم: (كنت قد نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها؛ فإنها تذكركم الآخرة)، ويتأمل كيف يأتي التذكير بالآخرة في مكان يأتي الإنسان فيه وعليه المصابيح، وهو مرتفع، وعليه أيضاً الأقمشة والستائر، والكتابات، وبعضها لها حجاب وهكذا، فيتنافي هذا تماماً مع كونه قبراً، بل تصيبك هيبة ورعب عند زيارته وكأنك داخل على رجل حي، أو كأنك داخل على مكتب رجل عظيم، فهذا ينتفي معه الوضع الشرعي.
ولذلك ينبغي للإنسان أن يعلم أن أهل القبور يتفاوتون تفاوتاً عظيماً وهم في بطن الأرض، ويتفقون في ظاهرها، أي: أن ظاهر القبور واحد لكن داخلها الله أعلم به، والذين يريدون أن يكرموا أمراءهم أو رؤساءهم أو حكامهم أو علماءهم أو من يحبونهم إنما يكرمونهم حقاً إذا دفنوهم وفق مقتضى الشرع والسنة.
فهذا بقيع الغرقد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم دفن فيه خيار الناس، فكل قبورهم على هيئة واحدة، وقد حدث في أزمنة فشا فيها الجهل أن وضعت عليها قباب ومساجد ما أنزل الله بها من سلطان، ثم أزيلت -ولله الحمد- في عهد هذه الدولة المباركة.
ونحن مثلاً نجد -وليس هذا تزكية لبلادنا- في مقبرة العود قبر الملك عبد العزيز رحمه الله، وقبر الملك فيصل، وقبر الملك سعود، وقبر الملك خالد، وقبر الملك فهد، وهي قبور مثلها مثل أي قبر آخر، وفي مقبرة العدل في مكة قبر الشيخين الجليلين ابن باز رحمة الله تعالى عليه، وابن عثيمين رحمة الله تعالى عليه، وقد كانا مالئي الدنيا علماً في زمانهما، وقبراهما اليوم كقبور سائر من دفن في مقبرة العدل، وهذا هو العدل والحق الذي جاء به الشرع.
يقول الشيخ محمد عبد القادر الشنقيطي رحمة الله تعالى عليه، وهو نزيل المدينة المنورة، وقد توفي عام (١٤١٨هـ)، يقول: دخلت المقبرة -مقبرة العود- مع الشيخ ابن باز وهم يدفنون ميتاً الظاهر أنه من معاريف الشيخ أو من قرابته، يقول: ونحن عائدون مر الشيخ على قبر فوقف فأخذ يدعو ويستغفر كثيراً لصاحب القبر، يقول الشيخ محمد عبد القادر الشنقيطي رحمه الله: فسألت الشيخ ابن باز: قبر من هذا؟ قال: هذا قبر الملك سعود رحمة الله تعالى عليه، ومعلوم أن حكام هذه البلاد -ولله الحمد- من أعظم من يجل العلماء، لكن أنا أدركت كثيراً من المشايخ كانوا يثنون ثناءً عاطراً على الملك سعود رحمه الله، فقد كانت من أظهر مناقبه حبه للعلماء والعلم.
فالشيخ عبد العزيز ما يبصر لكنه ذو بصيرة عظيمة، فهو يعرف القبر من باب أنه يسأل عنه، أو أن القائد الذي يسوقه يعرف رغبة الشيخ في أنه يعرف قبر الملك سعود، أو أنه في طريقه وقف عنده، لكن الشيخ محمد عبد القادر رحمه الله لم يعرف أن هذا قبر الملك سعود فليس عليه علامة ظاهرة، وليس عليه شيء يميزه عن قبر غيره، فلذلك سأل: قبر من هذا؟ وهذا هو الأصل في قبور المسلمين.