[من أخبار ثنائي النقائض جرير الفرزدق]
المقدم: ندخل أيضاً يا شيخ في عالم الأدب، ولعل مشاهدي الكريم وأيضاً الإخوة في الموقع بمجرد ما نقول ثنائيات في الأدب والشعر، فأول ما يرد إلى الذهن التلازم والواضح بين جرير والفرزدق، فلنعرض شيئاً من أخبارهم، وبعض الأشياء التي وردت في أشعارهم.
الشيخ: الشعر صناعة دنيوية، وأعقب على رسالة وصلتني بالجوال بعد الحلقة الماضية، أحد الزملاء ذكر اسمه وهذا يدل على فضله، ولم أجد وقتاً حتى أجيبه، فقد ذكر عندما قلت: إن المتنبي لم يحقق الحكمة في نفسه، فلم يصل إلى مقصوده وإن قالها في شعره، فبعث أحد الفضلاء رسالة يعاتب ويقول: إن هذا غير صواب في معنى كلامه، وحجته: شهرة المتنبي، وقال: إن الله علم صدق نيته، وحصل له هذا القبول.
وهذا خطأ في الفهم؛ لأن لا يقال في الصناعة الدنيوية: إن فيها صدق نية، وإنما هي أسباب، فالشعر صناعة دنيوية وليست صناعة أخروية حتى يقال فيها: صدق مع الله فصدقه الله، إنما هذا في العبادات وفي وسائل القرب، وأما الشعر في أصله فليس من وسائل القرب.
فـ المتنبي عرف كشاعر مجيد، ولم يعرف كعدل رشيد، وهذه قضية مهمة جداً، فمثلاً المشاهير من اللاعبين الذين يلعبون الكرة والمغنيين، والمشاهير من الفنانين، الناس كلها تعرفهم، لكن لا يعني هذا أن هناك قبولاً لهم طرح في الأرض، أبداً، إنما هي صناعة دنيوية يفتن الله بها من يفتن، فأخذوا بأسبابها، فنالوا مرادها، {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ} [الإسراء:١٨].
لكن هذا لا يسمى قبولاً، وقلنا مراراً أنه لابد أن يفرق الناس بين القبول وبين الشهرة، فمثلاً: إستالين، أكثر الناس على الأقل في زمانه كانوا يعرفون إستالين، وهو مذموم عند الله؛ لصنيعه، فهو شيوعي ملحد قتل ملايين المسلمين وله جرائم هائلة، فهذا لا يسمى قبولاً، فلابد أن يفرق بين القبول وبين الشهرة.
نعود إلى الفرزدق وجرير، فقد ظهرا في عصر بني أمية، وكلاهما من بني تميم، فـ جرير كان سلس العبارة، والفرزدق كان ثخن العبارة، ويقال في حقه: لولا الفرزدق لذهب ثلث لغة العرب، عرف بمجونه أكثر من جرير كان جرير فيه شيء من الورع حصل بنيهما سمي في الأدب العربي جملة بالنقائب كلاهما له أبيات فرادى، تغنى الناس بها، صارت بها الركبان، حفلت بها كتب الأدب، ومن ذلك قول جرير: بان الخليط ولو طوعت ما بانا وقطعوا من حبال الوصل أقرانا حيَّ المنازل إذ لا نبتغي بدلاً بالدار داراً ولا الجيران جيرانا يا أم عمرو جزاك الله مكرمة ردي علي فؤادي كالذي كانا لو تعلمين الذي نلقى أويتِ لنا أو تسمعين إلى ذي العرش شكوانا يا حبذا جبل الريان من جبل وحبذا ساكن الريان من كانا وحبذا نفحات من يمانية تأتيك من قبل الريان أحياناً إن العيون التي في طرفها حور قتلننا ثم لم يحيين قتلانا يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به وهن أضعف خلق الله أركانا فنجد في قصيدته سلاسة العبارة، في حين أن الفرزدق إذا مدح وأراد أن يهب ممدوحه ترى جزالة اللفظ وقوته، فاضفى على تلك القصيدة قوة جعلها تبقى، حيث قال: هذا الذي تعرف البطحاء وطأته والبيت يعرفه والحل والحرمُ هذا ابن خير عباد الله كلهم هذا التقي النقي الطاهر العلم وليس قولك من هذا بضائره العرب تعرف من أنكرت والعجم كلتا يديه غياث عم نفعهما يستوكفان ولا يعروهما عدم سهل الخليقة لا تخشى بوادره يزينه اثنان حسن الخلق والشيم ما قال لا قط إلا في تشهده لولا التشهد كانت لاؤه نعم عم البرية بالإحسان فانقشعت عنها الغياهب والإملاق والعدم ينمى إلى ذروة العز التي قصرت عن ليلها عرب الإسلام والعجم هذا ابن فاطمة إن كنت تجهله بجده أنبياء الله قد ختموا ويذكرون من طرائف أخبارهما: أن جريراً كان له رواية يكتب شعره اسمه: مربع، فتشاجر ذات يوم مع والد الفرزدق، فأراد الفرزدق أن يدافع عن أبيه فدفعه مربع فسقط الوالد، فلما سقط والد الفرزدق هدد الفرزدق مربعاً بأنه سيقتله في حالة موت أبيه، وهذه معناها: عجز، فقال جرير متهكماً بـ الفرزدق البيت المشهور: زعم الفرزدق أن سيقتل مربعاً أبشر بطول سلامة يا مربع وأصبح الشطر الثاني من البيت يجري مجرى المثل والحكمة بين الناس.
وعُمِّرا ما شاء الله لهما أن يعمرا ومات الفرزدق قبل جرير، وأخطأ جرير عندما قال: مات الفرزدق بعدما جدعته ليت الفرزدق كان عاش طويلاً ثم إنه ندم على بيته هذا وقال أبياتاً يرثي فيها الفرزدق.
ودخل معهما الراعي النميري والأخطل، وكانا في صف الفرزدق فهذا ما دفع جريراً إلى أن يقول في لاميته: لما وضعت على الفرزدق ميسمي وضغا البعيث جدعت أنف الأخطل فأراد أن يجمعهما كليهما في سياق واحد.
هذه أيها المبارك بعض أخبارهما ونتف من أشعارهما.